للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فطن ابن قتيبة رحمه الله إلى ما في بيت الفرزدق من احتيال على إكمال الوزن (١).


(١) قال ابن قتيبة (الشعر والشعراء ١ - ٣٤ - ١٥): «والمتكلف من الشعر وإن كان جيدًا محكمًا، فليس فيه خفاء على ذوي العلم لتبينهم ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذف ما بالمعاني حاجة إليه، وزيادة ما بالمعاني غنى عنه كقول الفرزدق في عمر بن هبيرة لبعض الخلفاء: «أوليت العراق البيت» يريد أوليتها خفيف اليد، يعني في الخيانة. فاضطرته القافية إلى ذكر القميص، ورافداه مجلة والفرات. أهـ كلام ابن قتيبة». -وهو كلام جيد ولكنه لم يعجب الدكتور مندورا، فانبرى له بهجمة عنيفة قائلاً من كلام طويل «النقد المنهجي عند العرب ٢٧ - ٢٨): «ونحن لا نرى إسرافًا في اللفظ ولا ضعفًا في الصياغة في قول الفرزدق «أوليت العراق» البيت (وروى أخذ بالخاء المعجمة وشرحها) فالرافدان يزيدان العراق جمالاً وشعرًا ونبلاً. وليسا من الحشو في شيء، وإنما هو الفرزدق الشاعر الدقيق الحس، الخبير بطبيعة الشعر ولغة الشعر، وقد عرف كيف يرفع من قدر العراق، ويضفي عليه جلال الشعر بهذين الرافدين .... وأما أخذ (بالمعجمتين) يد القميص فكناية جميلة لم يفطن إلى روعتها ابن قتيبة. وهل أدل على الخيانة من أن تكني عنها بقميص يقطر صديدًا؟ وهل أقوى من هذا عبارة؟ ومع ذلك يقول ابن قتيبة: إنها حشو. أهـ كلام الدكتور مندور».- قلت، ويل للعلماء القدماء من ألسنة النقد الحديث التي لا ترحم. وقد نسخت لك كلام ابن قتيبة عن بيت الفرزدق كاملاً، فهل تجده عد «الرافدين» حشوًا؛ فما بال الدكتور مندور ينسب إلى ابن قتيبة ما لم يقله، ويلومه على نقد لم ينتقده. وكل ما ذكره ابن قتيبة عن الرافدين أنه تلطف ففسرهما لمن عسى ألا يعرف ما هما. أفيلام ابن قتيبة على شرحه، فقد كان الرجل معلمًا في كتبه؟ ولعل الطبعة التي اطلع عليها الدكتور مندور خط فيها «والرافدين» مكان «والرافدان» خطأ، فتوهم هذا التصحيف صحيحًا، وحسب أن ابن قتيبة يريد الزراية على الفرزدق. والله أعلم. وأما كلام الدكتور مندور عن القميص فمنقوص عليه من جهتين: الأولى جهة الرواية، فهي أحذ بالحاء المهملة، وقد سبق التنبيه على ذلك، وابن قتيبة كان يحفظ البيت على صحته، ويعلم أن العرب تقول رجل أحذ اليد: أي سارق، كما نقول في السودان: خفيف اليد، وكما يقال في مصر: طويل اليد، ولو قال شاعر عامي الآن: «فلان طويل يد الجلابية»، أو خفيف يد البالطو لعد ذلك حشوًا. على أن ابن قتيبة لم يعب كلام الفرزدق كل العيب. بل قدم أنه يعده «جيدًا محكمًا». ولو تأخر العهد بابن قتيبة رحمه الله إلى القرن الرابع الهجري، لربما عد حشوة الفرزدق بذكره القميص هنا نوعًا من ذلك الحشو الذي كانوا يسمونه «حشو اللوزينج». أي هو لابس قميص الوالي ولكنه خفيف يده أي سارق فتحت قميص الوالي لص؛ وعلى تقدير التسليم بصحة الرواية التي رواها الدكتور مندور (أخذ بالخاء المعجمة، وذلك بعيد ومستحيل) فليس في صورة القميص الذي يسيل صديدًا دليل على الخيانة، وإنما يدل على القذارة والمرض. ولا أعرف ما وجه الشبه بين صورة من يلبس قميصًا يسيل صديدًا، وصورة الخائن السارق. اللهم إلا بتأويل بعيد وإعراب وكم وددت أن لو كان الدكتور مندور تريث قليلاً قبل أن يشن هجومه على ابن قتيبة. ومهما كان النقاد القدماء يخطئون، فلا ريب أنهم بحكم إتقانهم للغة العرب أقرب لأن يفطنوا إلى ما لا نستطيع أن نفطن له من دقائق أسرارها.

<<  <  ج: ص:  >  >>