للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والبيت الثالث عجزه كله تفسير لكلمة في صدره هي قوله «تفهق». والبيت الرابع فيه سرعة الخاطر بينة، وهي تعوض عن متابعة الأوصاف، وغير ذلك من عناصر الخفة اللفظية.

وهاك مثالاً آخر من شعر الفرزدق في الوافر (ديوانه ٢: ٤٣٩):

أقول لصاحبي من التعزي ... وقد نكبن أكثبة العقار

أعيناني على زفرات قلبٍ ... يحن برامتين إلى النوار

إذا ذُكرت نوار له استهلت ... بدمع سمبل العبرات جار

فلم أر مثل ما قطعت إلينا ... من الظلم الحنادس والصحاري

(أكثبة: جمع كثيب، والعقار: موضع).

وهذا من نادر ما رق فيه الفرزدق. ولا شك أنه كان كلفًا بنوار، وقد أفرغ فيها فرائد من شعره. هذا ولا إخاله يخفى عليك سلطان الوزن على أداء الكلام في الأبيات الرائية هذه- انظر كيف اضطر الشاعر إلى قوله «من التعزّي» ثم إلى الاستطراد بذكر الإبل، ثم أكمل المعنى في البيت الثاني، وجعل عجزه كالتفسير لصدره. وإذ أقول هنا إن الشاعر قد اضطر إلى الإكثار من الألفاظ ونحو ذلك، فلست أنسبه إلى التكلف، إذ أن هذا النوع من الاضطرار ناشئ عن نفس طبيعة الوزن. وسر جماله يكمن في المقدرة على تزويج ألفاظ ذات طنة ورنين بهذه التفعيلات الشديدة الطلب للفظ الرنان، والأداء الخطابي الإنشائي. وهاك مثالاً آخر من شعر الفرزدق، قوله يهجو كليب بن يربوع رهط جرير (من نفس القصيدة):

ألا قبح الإله بني كليب ... ذوي الحمرات والعمد القصار

ولو ترمى بلؤم بني كليبٍ ... نجوم الليل وما وضحت لساري

ولو لبس النهار بنو كليب ... لدنس لؤمهم وضح النهار

وما يغدو عزيز بني كليب ... ليطلب حاجةً إلا بجار

<<  <  ج: ص:  >  >>