ونهج الفرزدق في الوافر كله من هذا النمط المسرع. وهذا وحده يصدق قول النقاد الأوائل فيه: إنه كان معنًا مفنًا. وأي افتنان أعظم من أن يستطيع شاعر كالفرزدق، عرف بالإطناب والتعقيد، أن يضح كل هذا الوضوح، ويتدفق كل هذا التدفق.
وقد كان جريرٌ يخالف الفرزدق في طريقة الأداء. كان جادًا في الصياغة حين كان الفرزدق عابثًا هازلاً. وكان حريصًا على الإيجاز والتسهيل، حين كان الفرزدق لا يبالي أأكمل معناه في بيت واحدٍ أم عدة أبيات، ولا يهتم أجاء به سهلاً مناسبًا أم ملفتًا معقدًا، وكان حريصًا على تجويد الصياغة، حين كان الفرزدق يرى نفسه فوق أن يجود ألا أن يجيء ذلك اتفاقًا، وكان يحافظ على اللغة القديمة الصافية ما أمكن، حين كان الفرزدق لا يبالي أن يخرج عن النحو أو يزيد في متن اللغة، أو يستعير من السوقة والأعاجم.
وقد كان جرير ذا طبع صاف، وعاطفة مندفعة، وخاطرٍ سريع، وبديهة حادّة، وحذق ومهارة في إلقاء القول. ولكن الفرزدق كان أميل إلى الفكاهة العميقة منه إلى النكتة الخاطفة. ومن أجل هذا كله كان جريرٌ -حين ينظم في الوافر- يجري مع طبيعته، وينساب في واديه. ولو نظرت في ديوان جرير وجدت إحسانه في الوافر أضعاف إحسانه في الطويل مثلاً. كما أنك لو نظرت في ديوان الفرزدق وجدت إحسانه في الطويل يزيد على الوافر بقدر عظيم.
ولو ذهبت أختار لك من وافر جرير، قاصدًا بذلك أن أوفيه حقه، لاضطررت