(٣) ثم إنه مع إيجازه ويسره وقلة تكلفه تخير الأداء، فاستعمل ضروبًا من المجاز والاستعارة منسجمة كل الانسجام مع مسلكه اليسير السهل الممتنع.
هذا ومع هذا النواحي الثلاث -في الأبيات التي ذكرنا، وفي سائر القصيدة التي اخترنا منها هذه الأبيات- ناحيتان أخريان مهمتان للغاية. الأولى هذا الوزن القوي المطرد، وافتنان الشاعر في إظهار نفعه طورًا بتكرار كلمات بعينها كقوله «أمير المؤمنين» في البيتين الأول والثاني، وطورا بأرداف كلمات متقاربة في الوزن والمعنى كقوله «أبًا وخالاً» و «الخؤولة والعموم» في البيت الثالث، وتارة بإعادة أطراف من الألفاظ والمعاني بعضها على بعض كقوله «كفى الأيتام فقد أبى اليتيم» وكقوله «إذا نظرت إلى هشام نظرت» وطورًا بالمطابقة كقوله «فما الأم التي ولدت البيت». وربما يُضرب جريرٌ عن التكرار والمطابقة، ويأتي يبيته كله دفعةً واحدة بحيث يبدو لك مشتملاً على عدد من الكلمات أكثر من أن يحتمله وزنه كقوله:
وتنزل من أمية حيث تلقى ... شئون الرأس مجتمع الصميم
فهذه جملة واحدة لا تستطيع أن تحذف منها شيئًا. ومثل هذا البيت في الوافر لا يقوى على أن يجيء به إلا ذو ملكة قوية، إذ لا يكاد شاعر يخلو في الوافر من الاستعانة بأنواع الإطناب واللعب اللفظي.
والناحية الثانية المهمة هي أن قصيدة جرير هذه، طرازٌ من مدح الخلفاء اتخذه من بعده من الشعراء نموذجًا -لا سيما مروان بن أبي حفصة وعلى منهاجه في المدح سار الطائي والبحتري من بعد. ولو فتشت في شعر الذين تقدموا جريرًا فإنك لن تجد شيئًا من مدائحهم يجمع كل ما ينبغي أن يمدح به خليفة كما تفعل هذه القصيدة- حتى ولا شعر جرير في عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز فإنه لا يصلح نموذجًا للمدح كما تصلح هذه الميمية في هشام.