أرادوها. فطرفة أراد التظلم، فجاء شعره مرًا محضًا، مفعمًا بمعاني الغيظ، وأبو تمام أراد التبكيت والتوبيخ، فأخرج كلامه مخرج الخطابة والعظة. وذو الإصبع أراد التحسر لحال قومه، فجرى كلامه مجرى الغناء الحزين، على أن فيه نفسًا من التذكير والعظة. ولعلك تحس أن كلامي العدواني وأبي تمام متقاربان متشابهان. وأزعم أن أكبر قسط من التشابه راجع إلى ما بين الهزج والكامل من شبه في خفة الجرس، وكلام طرفة مباينٌ للكلامين كل المباينة. وأكاد أجزم أنه لو أجراه على الكامل ما صلح، لأن روحه روح وجعٍ وألم يسيل مسيل النهر الكثير الماء، وهذا لا يصلح له بالكامل بجرسه الذي يناسب الرقص والترنم والزجر وما إلى ذلك. ولا الهزج يصلح له لأنه بحر خفيف قصير، ولا الرمل ولا الرجز لقرب غورهما وعلو جرسهما. وإنما يصلح له الطويل لامتداد نفسه وخفاء جرسه.
ولأمر ما فضل الشعراء الأولون بحر الطويل على غيره في باب القصص المتصل بماضيهم وأخبارهم وأساطيرهم وملاحم قبائلهم في الأزمان السالفة، فإن حظه من ذلك هو الأوفر بالنسبة إلى غيره من البحور. ومنحى الشعراء فيه يناسب معاني التغني بجلالة الماضي وعنصر القصص والنعت فيه من الطراز الذي يدعو السامع لأن يُصغي ويتفهم قبل أن يهتز ويرقص كما في متقاربيات الأعشى. وشعر السير والأخبار كثيرًا جدًا في العربية، وربما خُيل لبعض الباحثين أن ليس في الاستشهاد به كبير غناء، لأن أكثره متكلف منتحل لا يصلح للاستشهاد. وهذه الحجة -مع فرض التسليم بطرف منها وهو الانتحال- باطلةٌ، لأن القاص المنتحل، كغير المنتحل، يتعمد أصلح البحور لقصصه، ومن غرائب الاتفاق أن يجمع أكثر المنتحلين على اختيار الطويل. أليس في هذا ما يدل على أن الأوائل كانوا يتقصدون هذا البحر دون غيره؟ أم ليس في خفاء جرس هذا البحر واعتداله وطول نفسه ما يعين على القصص؟ على أننا لا نسلم بأن إشعار السير والملاحم والأساطير في جملتها منتحلة.