فالمنتحل منها وإن كثر يمكن تمييزه ونقده. وللنقد العلمي المتقن مقاييس وأمور يُعرف بها الصريح من الهجين، أهمها الأسلوب ثم الرواية الصحيحة. والراجح أن الرواية الصحيحة في باب الشعر كانت تُعوّل على ما سطر في كتب الأولين أكثر مما تعوّل على مجرد الحفظ المتوارث من جيل إلى جيل (١).
وقد كانت العرب تلقى القصص في أشعارها على سبيل التلميح والإشارة، وتفترض أن السامع عالم بالتفاصيل والحوادث- ولا تكاد تشدّ عن هذا المنهج إلا في أوصاف الوحش، فقد كانت لها فيه طريقة واحدة متفق عليها، تجدها في أشعار هذيل وأشعار لبيد والشماخ، وحتى في أشعار الأخطل وذي الرمة والكميت والطرماح من المتأخرين ولا يخالجني شك في أن أوصاف الوحش لم يكن يراد منها في الأصل مجرد الوصل أو مجرد القصص، وإنما كانت لها قيمةٌ رمزية تقليدية اتصلت اتصالاً وثيقًا بمبنى القصيدة القديمة، وربما كان كل ذلك يرجع في أصله الأول إلى مرجع ديني وثني موغل في الأولية.
وسائر قصص العربية الوارد في الشعر تلميح وخطف، مثال ذلك قافية تأبط شرًا التي في أول المفضليات، فالشاعر فيها يفترض أنك كنت معه إذ نجا من بجيلة، وكرائية الحارث بن وعلة الجرميّ، التي يصف فيها فراره يوم الكلاب الأول، وكقصيدة عروة بن الورد الرائية التي يذكر فيها كيف خدع فرهن امرأته، حيث يقول:
(١) هذا باب طويل سنتناوله في جزء آخر من هذا الكتاب إن شاء الله. وبحسبنا أن نذكر هنا أن الأستاذ البهييتي في كتابه القيم (تاريخ الشعر العربي إلى القرن الثالث- ١٩٢) قد نبه إلى أهمية المراجع الكتابية في رواية الشعر القديم، واستدل بأدلة كثيرة. هذا ومن الأدلة القوية التي فاتته كثرة ما نجده من اختلاف الروايات في البيت الواحد مما يكون مصدر الاختلاف فيه ناشئًا عن تصحيف كتابي قديم، أو عن خطأ في قراءة نص مخطوط، وهذا سنفصله في موضعه إن شاء الله.