وقد كان زياد كلم قومًا أن يُزينوا للفرزدق الرجوع إلى البصرة، ويخبرون أن زيادًا قد رق له، وأنه سيعطيه ويكرمه ويعفو عنه، فقال الفرزدق يذكر ذلك:
دعاني زياد للعطاء ولم أكن ... لآتية ما ساق ذو حسب وفرا
وإني لأخشى أن يكون عطاؤه ... أداهم سودًا أو مُحدرجة سُمرا
عنى الحبس والقيد. ولا يخفى ما في البيتين من تهكم وسخرية:
وعند زياد لو يريد عطاءهم ... أناس كثير قد يرى بهم فقرًا
قعود لدى الأبواب طلاب حاجة ... عوان من الحاجات أو حاجة بكرًا
وهذان البيتان من الهجاء اللاذع، والنقد العنيف، ولعلك تذكر أيها القارئ أن زيادًا كان يفتخر بأنه لا يكذب على المنبر، وأنه قال في خطبته البتراء:«إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة»، ثم جاء في خطبته أنه لا يحتجب عن طالب حاجة ولو جاء طارقًا بليل. فأي هجاء أوجع من أن ينقض الفرزدق عليه مقالته هذه ويتهمه بالكذب.
وفي البيت الأخير نكتة نحوية، وهي العطف على الموضع في قوله:«أو حاجة بكرًا» إذ هي معطوفة على «حاجة»، وموضع حاجة نصب.
هذا وللفرزدق في الطويل من ضروب الهزل والجد روائع لا نستطيع أن نستوعبها في هذا المقام الضيق. وبحسبنا أن ننبه القارئ إلى موضعها من الأغاني في الجزء التاسع عشر، وإلى ديوانه، فهو كنز لا تفنى ذخائره. ومما يحسن ذكره في هذا الموضع أن الفرزدق قد بلغ من ولعه بالفكاهة أنه لم يكتف بنظم المقطوعات فيها، وسرد القصص المضحكة في عرض القصائد، بل تجاوز ذلك إلى أن افتتح بها بعض قصائده الطوال، وجعلها في الموضع الذي يجعل فيه غيره من الشعراء ذكر الأطلال والنسيب وصفه الخمر وما شاكل ذلك. وعندي أن هذا قد كان تجديدًا عظيمًا من