للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفرزدق لا يكاد يضارعه فيه أحد ممن جاء بعده أو مضى قبله. وصفة الأصالة فيه واضحة بينه. وقد رأيت مثالاً لذلك في الأبيات الميمية التي ذكرناها.

وأبلغ من الأبيات الميمية أبياته النونية في الذئب (١):

وأطلس عسال وما كان صاحبًا ... دعوت بناري موهنًا فأتاني

فلما دنا قلت إدن دونك إنني ... وإياك في زادي لمُشتركان

فبت أسوي الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرة ودخان

فقلت له لما تكشر ضاحكًا ... وقائم سيفي من يدي بمكان

تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيين مكانا أرضعا بلبان

ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ... رماك بسهم أو شباة سنان

وكل رفيقي كل رحل وإن هما ... تعاطى القنا قوماهما أخوان

وخوف الفرزدق ظاهر في هذه الأبيات، وهو لا يحاول أن يدسه عنك، بل يؤكده بهذا الملق الظريف الذي يخاطب به الذئب.

وقصة هذه الأبيات كما حدثت تختلف شيئًا عما ذكره الفرزدق في أبياته، ومن الإنصاف له أن نقول: إنه هو الذي رواها كما وقعت، فقد كان مسافرًا في ركب، وكان قد سلخ شاة فأعجلهم المسير فعلقها على بعير، حتى إذا جاء الفجر وعرس الركب، وناموا، جاء ذئب إلى المسلوخة فجعل ينتهشها ونفر الإبل وأحس به الفرزدق، فأخذ يرمي له بالعضو من الشاة بعد العضو حتى أسفر الصبح وانقشع الذئب.

هذا، وقد استهل الفرزدق بهذه الأبيات الفكهة الحلوة كلمة من قصائده


(١) الديوان ٨٦٩ - ٨٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>