ستار التفكر في هول الحادث، والتأمل في أحوال الدنيا الغدارة. فاستهل كلامه بذكر الأطلال كما كان يفعل القدماء. وجعل طلله قصر المتوكل نفسه ليرمز بذلك إلى ما أصابه من خراب بفقد سيده، وإلى ما دهاه به الدهر من تكدير صفائه وإذلال أبهته وعظمته. ثم انتقل من ذلك إلى تعظيم أمر الخلافة وتهويل ما اقترفه المغتالون من حُرمتها مع حسرة وتفجع في ذلك، واستسلام للقضاء، وخضوع لصولته. تأمل قوله:«فأين الحجاب العصب، البيت». ثم أخذ يوضح بعد ذلك كيف أن صُروف القضاء جميعها قد تواطأت على خذلان المتوكل، من إحكام المتأمرين لما أجمعوا عليه من الغيلة، ومن أن الفتح كان أعزل، وأن أخاه عبيد الله لم يجد عونًا على العدو. وأن طاهر بن عبد الله كان بعيدًا بخراسان ثم أخذ بعد ذلك يصف منظر الفتك نفسه، وقد أحسن في تصوير عجزه هو نفسه حيث قال:«أدافع عنه باليدين، البيت» وإن كان قد كذب في ذلك. ولم يخل من نفج وخروج عن جلال المقام حين قال:«حرام علي الراح، البيت» فهذا كان يقوله أمثال المهلهل في مثل كليب؛ وماذا يغني أن يُحرم البحتري حرامًا مجمعًا على تحريمه، حزنًا على أمير المؤمنين المقتول؟ وأي فائدة في تحريم الخمر على نفسه (على فرض أنها حلال) حتى يدرك تأثر بدم المتوكل؟ وهل مثل فاجعة المتوكل مما يغني فيه إدراك ثأر؟ أحسب أن البحتري لم يوفق في هذه الأبيات الأخيرة التي ختم بها القصيدة كتوفيقه في أولها، إذ نحس أن الأبيات الأخيرة تنظر إلى المتوكل من حيث إنه فرد لا من حيث إنه رمز لمعنى الدولة الإسلامية والخلافة العباسية كما في الأبيات الأول:
والآن أذكر لك قصيدة المهلبي (الكامل ٢: ٣١١ - ٣١٢):
لا حُزن إلا أراه دون ما أجد ... ولا كمن فقدت عيناي مُفتقد
لا يبعدن هالك كانت منيته ... كما هوى من غطاء الزبية الأسد (١)