وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن
فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... يهماء تكذب فيها العين والأذن
تحبوا الرواسم من بعد الرسيم بها ... وتسأل الأرض عن أخفاقها الثفن (١)
هذا، وللمتنبي من الشعر العنيف في بحر البسيط روائع عدة: فأحيل القارئ على ديوانه وليقرأ هجاءه لكافور، وعتابه لسيف الدولة في قوله:«واحر قلباه ممن قلبه شبم»، وميميته التي قالها في صباه:«ضيف ألم برأسي غير محتشم» - فكل هذا سيجد فيه أصدق تعبير عما كان يجيش بصدر ذلك الشاعر من غيظ وحسرة وكبرياء.
وحسبنا ما ذكرناه في التدليل على قوة البسيط وعُنفه، والآن نأخذ فيما قلناه آنفًا من أنه يصلح لرقيق الكلام. وقد يتبادر لذهنك الغزل عند ذكر الرقة. ثم تعجب بعد ذلك لقلة ما جاء في البسيط بالنسبة إلى غيره. والحقيقة أن رقة البسيط من النوع الباكي فهي تظهر في باب الرثاء كما في رائية الخنساء ولامية جرير في سوادة، وتظهر في كل ما يغلب عليه عنصر الحنين والتحسر على الماضي. فالبكاء على الأوطان المسلوبة يدخل في هذا القبيل، وقد ألمعنا لك عن ذلك عندما أشرنا إلى مراثي الأندلسيين لمرابعهم. وأحسن ما يجيء الغزل في البسيط إذا كان ممزوجًا بلوعة الأسى والذكرى. ولذلك حسن النسيب التقليدي في هذا البحر، لأن في النسيب عُنصرًا من الرمزية المراد منها إثارة الحزن في النفوس- ليس الحزن المر، وإنما الحزن الذي يعرض للإنسان عند التفكر والتذكر والحنين ويمازجه شيء من حلاوة، والعرب تسميه «الشجن» و «الأشجان» وهو عند الإنجليز معروف باسم (نوستالجيا).
(١) الرواسم: الإبل- الرسيم: السير. الثفن بكسر الفاء: جمع ثفنة، وثفنات البعير: هي ركبه الأربع وكركرته. يعني أن الهجر غادر بينه وبين سيف الدولة مسافة شاسعة تشبه صحراء مبهمة لا تهتدي فيها عين الدليل أذنه، وتسلكها الإبل فترقل ثم تخذي ثم تسقط ثفناتها من الجهد وهي غير شاعرة، ثم تجعل بعد ذلك تحبو زحفًا، وأخيرًا يؤلمها لذع الأرض فتسألها كالمتعجبة: ماذا حدث لثفناتي وأخفاقي؟ !