للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد يحلو لبعض النقاد أن يعد النسيب الذي تستهل به القصائد نوعًا متكلفًا من الغزل. وقد يكون كذلك إذا كان الشاعر ضعيفًا، ولكن من يُحسن الشعر يأتي به قويًا، ناصعًا عامرًا بمعاني الشجن. وقد نبه الأستاذ المستشرق (جب) على هذه الظاهرة في مقال نشره بمجلة معهد اللغات الشرقية بلندرة منذ نحو عامين (١) (وأحسبه اعتمد فيه على ما كتبه ابن رشيق في العمدة في باب المبدأ والخروج والنهاية) وخلاصة كلامه، أن العرب أكسبتهم حياة الصحراء شعورًا عميقًا (بالنوستالجيا) فهم لا يفتأون يفتتحون بها في النسيب ونحوه قصائدهم طلبًا لإثارة السامع وتهييجه، فمن فطن لهذا المعنى الدقيق في النسيب العربي لم يزعم أنه غزل متكلف، أو مجرد تقليد «رسمي» لا ينتظر من مثله أن يحمل حرارة أو روحًا، بل لرأي فيه إفصاحًا صادقًا عن ذلك الشجن الدقيق في قلب كل عربي عرف الصحراء وتأثر ببيئتها الرتيبة المظهر، الساحرة العميقة الغور.

فإن فهمنا هذا السر من أسرار النسيب. علمنا أنه يحتاج إلى نوع من الرقة غير ما نجده في شعر ابن أبي ربيعة، وغير ما نجده في شعر جميل والعُذريين ومما يحسن التنبيه عليه أن هؤلاء الغزليين تنكبوا البسيط، وما ذلك إلا لأنهم كانوا يتحدثون عن واقع حاضر من الغرام ينعمون به أو يشقون، لا عن أشجان ولوعات غوامض وابن أبي ربيعة لا تكاد تجد له فيه شيئًا ذا بال، اللهم إلا قوله:

هيهات من أمة الوهاب منزلنا ... إذا حللنا بسيف البحر من عدن

وهذه مقطوعة رقيقة كتبها من اليمن يصور فيها حنينه إلى الحجاز وإلى ابنته أمة الواحد- وهذا غرض من الأغراض التي قلنا: إن البسيط طريقها المهيع.

والآن أضرب لك أمثالاً من النسيب المُلتاع الذي وقع في هذا البحر ليتضح


(١) أي سنة ١٩٥٠ م.

<<  <  ج: ص:  >  >>