للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجرير فيما رووا كان عفا راعيًا لحقوق الإحصان، وإنما قالها ليفصح بها عما كان يملأ جوانب صدره من حنين إلى أيام الشباب التي قضاها بالبادية، وإلى سويعات السعادة التي اختلسها من سوالف الأيام.

وقد يكون موضوع النسيب الحزين الباكي حادثًا من حوادث الغرام الحقيقية وقع للشاعر فيما مضى، كما قد يكون موضوعه توديعًا لحبيب لما تنقطع أواصر العلاقة به، وتكون عاطفة الحنين، ولوعة التذكر أقوى في هذه الحالة. فمثال ذلك كلمة ابن زريق المشهورة، وهي -وإن كان في بعض متنها وهي- جيدة غاية الجودة في جملتها، لا سيما قوله منها:

أستودع الله في بغداد لي قمرًا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبودي لو يودعني ... صفو الحياة وأني لا أودعه

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه

وكم تشفع بي ألا أفارقه ... وللضرورة حالاً لا تشفعه

ثم يقول فيها يلوم نفسه على ما تجشم من اغتراب:

إذا الزماع أراه في الرحيل غنى ... ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه

كأنما هو من حل ومُرتحل ... مُوكل بفضاء الله يذرعه

والله قدر بين الناس رزقهم ... لم يخلق الله مخلوقًا يضيعه

وهذا الشطر الأخير على سذاجته شفاف بصدق العاطفة، ومما يجري هذا المجرى من استعراض الذكريات لأيام الصفو والوصال نونية ابن زيدون المشهورة. ولا تخلو بعض أبياتها من تكلف إلا أن فيها مواضع غاية في الحسن، وقد تأثر ابن زيدون فيها مذهب جرير في نونيته شيئًا ما، ومن أجود ما قاله فيها (١):


(١) ديوان ابن زيدون تحقيق كيلاني ص ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>