فهذا كلام يجمع -إلى صدق العاطفة- سلامة الذوق وتهذيبه، وفيه رقة الحضارة وتهذيبها، ونعمة الملك، وأبهة الإمارة. ولابن زيدون في ولادة بنت المستكفي، بسيطيات كلها تجري هذا المجرى الرفيع الناعم الحواشي. من ذلك قوله (ديوانه ١٠٩):
كيف اصطباري وفي كانون فارقني ... قلبي وها نحن في أعقاب تشرين
شخص يذكرني فاه وغرته ... شمس النهار وأنفاس الرياحين
وإن بُعدت وأضنتني الهموم فقد ... عهدته وهو يُدنيني فيسليني
والله ما فارقوني باختيارهم ... وإنما الدهر بالمكروه يرميني
وما تبدلت حُبًا غير حبهم ... إذا تبدلت دين الكفر من ديني
أفدي الحبيب الذي لو كان مقتدرًا ... لكان بالنفس والأهلين يفديني
وبحسبنا هذا القدر من الاستشهاد على ما في البسيط من الصلاحية لتقبل العنيف والرقيق الباكي من الكلام. وأحسب السر في صلاحيته لهذين النقيضين هو أن نغمه يتطلب عاطفة قوية -أنى كان نوعها- يعبر عنها الشاعر تعبيرًا خطابيًا جهيرًا، ويلزم مع ذلك جانب الجلالة والرفعة. وهاتان الصفتان هما اللتان تجمعان بينه وبين الطويل.
هذا، والبسيط بحر مُعرض عنه بين المعاصرين، لا يكاد ينظم فيه إلا من يُدعون بأصحاب المدرسة القديمة. وهذا أمر يثير الأسف، لأن وزن هذا البحر جميل لا يستأهل الإهمال (إن لم يُتح له مكان الصدارة)، وفي نغمه اتساع للكلام القوي، والعواطف الحرة. وقد أكثر منه المرحوم شوقي (من بين طبقة المعاصرين الأولى) ولكن معظم نظمه فيه من الضرب المتوسط بما في ذلك نونيته التي جارى بها ابن زيدون:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا ... نشجي لواديك أم نأسى لوادينا (١)