للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذواتها وهذا كان رأي أكثر النقاد، ولا يزال يقول به جماعة من المعاصرين. وكان بعض القدماء ينكره، ويزعم أن الكلمات كلها حسنة في ذواتها، حتى يلحقها النظم، فتعلوا أو تسفل. ونقل ابن الأثير رأي هؤلاء، من دون أن يسميهم، ليخسر منه في مثله السائر (١). وابن الأثير كان من القائلين بنظرية الحسن والقبح في ذوات الكلمات، شأنه في ذلك شأن أبي الهلال العسكري، والجاحظ في البيان والتبيين. وعلى آراء ابن الأثير في الغرابة والتنافر اعتمد المتأخرون. وأنقل للقارئ هنا طرفا منها. قال، بعد أن مهد لقضيته بأن الألفاظ هي من حيز الأصوات: "فالذي يستلذه السمع منها، ويميل إليه، هو الحسن. والذي يكرهه وينفر منه، هو القبيح. ألا ترى السمع يستلذ صوت البلبل من الطير، وصوت الشحرور، ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب، وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمير، ولا يجد ذلك في صهيل الفرس؟ والألفاظ جارية هذا المجرى، فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والديمة حسنة، يستلذها السمع، وأن لفظة البعاق قبيحة، يكرهها السمع. وهذه اللفظات من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد. ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما، مألوفة في الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكًا، لا يستعمل وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة، أو من كان ذوقه غير سليم، لا جرم أنه ذم وقدح فيه، وإن كان عربيًا محضًا من الجاهلية الأقدمين. فإن حقيقة الشيء إذا علمت، وجب الوقوف عندها، ولم كان ظاهرًا بينا لأنه مألوف في الاستعمال. وإنما كان مألوفًا في الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك. والذي يدرك بالسمع، إنما هو اللفظ، لأنه صوت يتألف من مخارج الحروف. فما استلذه السمع فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح (٢) ".


(١) المثل السائر لابن الأثير، تحقيق محمد الصباغ ١٢٨٢ هـ، ص ٤١.
(٢) المصدر نفسه: ٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>