وهؤلاء هم كانوا المقصودين بالتحدي من جانب القرآن. وقد جرى على أساليبهم ومنهجهم. فكونه نثرًا لا ينافي أن في أسلوبه مظاهر وصيغًا كان يتصف بها المنهج الشعري القديم. ومن أجل هذا جسر بعض الكفار، فسموا النبي شاعرًا، وفاتهم أن الشعر على ذلك العهد قد صار ذا وزن وقافية وأعاريض، وأن السجع قد خرج من ساحة الشعر خروجًا لازمه ولصق به، ألا تجده قد صار النثر الركوب في أواخر القرن الرابع، إلى أوائل عهدنا الحاضر؟
والأمر الثاني الذي نستدل به على أن اللغة العربية قد عرفت أسلوب إعادة البيت في أجزاء القصيدة على سبيل الترنم، هو ما نجده من رواسب هذا الأسلوب وآسانه في بعض الأشعار التي بأيدينا من تراث الجاهلين، وحتى في بعض الاشعار الإسلامية، خذ مثلا هذين البيتين لأمرئ القيس (١):
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ... بذات الخرامى أو على رأس أوعال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا ... من الوحش أو بيضًا بميثاء محلال
تأمل هنا تكرار "تحسب سلمى لا تزال". فمثل هذا التكرار ليس المراد منه مجرد الخطابة، ولكن تقوية النغم أيضًا. والشبه بينه وبين إعادة الأبيات (التي يسميها الإفرنج refrain، ويسميها العامة عندنا في أشعارهم الدراجة بالعصا قوي واضح).
وتأمل قول تأبط شرًا في القافية التي في أول المفضليات:
إني إذا خلة ضنت بنائلها ... وأمسكت بضعف الوصل أحذاق
نجوت منها نجائي من بجيلة إذ ... ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقي
(١) من اللامية: "ألا عم صباحًا". ذات الخزامى، ورأس أوعال: موضعان. الكل. هو ولد الظبية والميثاء: هي الأرض الناعمة. والمحلال التي يحلها الناس كثيرًا أي وإنك لتتخيل وتظن أن سلمى قريب كعهدك بها نازلة مع الخليط تخرج فترى حولها، إما ولد ظبية يشبهها في الحور والحلاوة، وإما نساء بيضا مثلها يتسامرن على كتيب