للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقالوا ما تعوج بنا لشيءٍ ... إذا لم تلفهم إلا لماما (١)

من الأدمي أتينك منعلاتٍ ... يقطعن السرائح والخداما (٢)

فليت العيش قد قطعت بركب ... وعالًا أو قطعن بنا صواما

كأن حداتنا الزجلين هاجوا ... بخبتٍ أو سماوته نغاما (٣)

فانظر إلى أسماء المواضع هنا، هل ترى الشاعر أراد بها تقرير تجربة مرت به؟ هل أراد بها إلى وصف السفر والحل والترحال؟ أليس الجلي البين أنه أراد إلى مجرد التغني وإشاعة عنصر من الشوق، والحنين؟ ألا ترى هنا عاطفة صورية غامضة تطيف بالكلام وترنق إليه، وتسري إلى أطرافه؟ ثم ألا ترى الشاعر لا يكاد يريد إلى ذكر موضع واحد أو موضعين بأعيانهما، وإنما يتسلى بتعداد أسماء مختلفة كأنما يستحسن جرسها، وكأنه يهم أن يقرنها في أذهاننا وأوهامنا بمعانٍ روحية، أكبر وعظم من مجرد الإشعار بالموضعية والنقلة والحل والترحال؟

ولعلك تكون قد فطنت إلى أن تعداد المواضع في الشعر الجاهلي، كالذي عند لبيد، وزهير، والنابغة، وإن كان لا واقعيًا، وإن كان صوريًا، فهو لا يزال قريبًا من الواقع، بحيث يجوز لمن شاء أن يفترض أن صويحبات زهير في المعلقة "تحملن بالعلياء من فوق جرثم" ثم ملن إلى السوبان، ثم خلفن القنان عن يمين وحزنه. ولكن جريرًا لا يعطيك الفرصة لتنسب إليه مثل هذه الواقعية، ولو على سبيل الفرض المحض. فمواضعه أشبه بالرموز، وأدخل في حاق الوهم، وأكثر إيغالا في الصورية العاطفية البعيدة عن الأرض، اللاحقة بالسماء و"أثير" الخيال.


(١) قالوا له: إذا كنت لم تلق أحبابك هؤلاء إلا لماما وأحيانا بعيدة، فانك تضيع زمننا بالتعريج إنك ما تعوج بنا من أجل شيء.
(٢) السريحة: نعال من السير تجعل للإبل. والخدام: جمع خدمة، وهي كالقيد يجعل على وظيف البعير.
(٣) الزجلين: أي المصوتين.

<<  <  ج: ص:  >  >>