وقد فطن الشعراء الذين جاءوا بعد جرير بدهرٍ إلى هذا الناحية الفنية السحرية في شعره. وبحسبك أن تنظر في دواوين البحتري ومهيار والشريف الرشي، فعندهم من ذكر عالج وذي سلم والعقيق واللوى والأجرع ما يوشك أن يوقع في خلدك أنهم قد طوفوا آفاق الجزيرة، وعرفوا منها ما عرفه جرير. هذا، وأنت تعلم أن هؤلاء مولدون حضريون لعلهم لم يعرفوا شيئًا من هذه المواضع من غير طريق الكتب.
ويغلب على ظني أن المحدثين الأوائل، وكانت تسيطر الشعوبية على أكثرهم، نفروا من ترديد المواضع البدوية على نحو ما كان يفعل جرير. على أنهم فطنوا للجمال الصوري الذي يضفيه ترديد هذه المواضع على جو القصيدة. فراموا مضاهاة ذلك بترديد مواضع من صميم حياتهم، كأحياء الكرخ وكلواذ وطيزناباد، وما إلى ذلك من مواضع القصف ببغداد ونواحيها. ولكن هذه المواضع الجديدة التي أرادوا إحلالها مكان المواضع الجريرية العذبة الرشيقة، لم يكتب لها الخلود، واندثرت كما اندثرت ثورتهم على افتتاح القصيدة بالنسب والأطلال، واقتراح بعضهم -كأبي نواس- (١) أن تفتتح بمدح الخمر والقصف والمجون.
على أن بعض المواضع التي رددوها أتيح لها أن تبقى إلى حين. وتلك هي الأديرة. وأحسب أن تقبل الصورة القصيدية للأديرة، ورفضها لمواضع بغداد، وأماكن اللهو الأخر التي كان يرتادها أبو نواس وأضرابه، يرجع إلى طبيعة الروحية والفنن التي كانت تتسم بها الأديرة. ولعل هذه الطبيعة الفنية التي كان يلمسها الشعراء في الأديار، جعلت لها في أذهانهم، لونًا فيه مشابه من اللون الشعري الرمزي اللاواقعي، الذي أسبغه جرير على اللوى وذي طلوح وذي سلم وعالج وما إليها.
(١) لنا في أبي نواس مقال من بعد إن شاء الله تعالى.