للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا، ولا ينبغي أن يفوتنا أن جمال الأديرة قد لفت أذهان الشعراء وامترى عواطفهم من لدن الأيام الأموية الأولى. وهذا جرير نفسه يقول (١):

لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس

غير أن الأديرة، مع ولع الشعراء بها إلى عصور متأخرة، لمتصل قط إلى السماء الوهمية التي وصلتها مواضع جرير. والدليل على ذلك أننا لا نجد الشعراء المولدين المتأخرين رددوا أسماء الأديار في النسيب وما إليه ترديدهم لذي سلم ولعلع وسلع ورامة.

وأظن أبا تمام مسئولا إلى حد كبير عن إماتة المواضع البغدادية التي كان يترنم بها أبو نواس ومعاصروه والطريق التي افترعها أبو تمام، عبدها أبو عبادة وتممها. وأحسب الذي دفع أبا تمام إلى العدول عن ذكر المواضع البغدادية في شعره أمران:

كراهيته لأساليب الشعوبيين جميعًا، وحرصه على اتباع المناهج العربية القديمة، هذا من جهة، وثانيًا كلفه بالجناس. أما كراهيته للشعوبية وحرصه على الأسلوب القديم فيدلك عليه إحياؤه -بطريقة جادة- لصورة القصيدة القديمة من افتتاح بالنسيب والأطلال إلى رحلة إلى دح، وهذا أمر نأمل أن نفيض فيه فيما بعد إن شاء الله. وأما كلفه بالجناس فقد جره جرًا إلى أن ينفر عن أسماء كلواذ وناباذ والكرخ، مما لا يمكن أن يباري الأجرع واللوي ورامة في الصلاحية لمجانسة الألفاظ. وما أشك أنه كان سيحتاج إلى تكلف عنيف واستكراه مؤلم ليجد ألفاظًا يجانس بها المواضع البغدادية المحدثة التي كان يكثر منها أبو نواس وصحابه.

وقد كان أبو تمام ناقدًا حصيفًا. فأدرك بثاقب فكره ما يصاحب أمثال رامة والأجرع من جو حان مفعم بالعواطف الغامضة. وإلى إشاعة العواطف الغامضة كان يعند هو في مطالعه النسيبية وبما بمنزلتها. ولذلك لم يكن يجد أنسب، لتقوية هذه


(١) ديوانه: ٣٢١.
(٢) ديوانه: ٢١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>