للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن لم يبلغك الحجيج فلا رموا ... في الجمرتين ولا سقوا في زمزم

ومنوا برائعة الفراق فإنه ... سلم السهاد وحرب نوم النوم (١)

ألوى بأربد عن لبيد واهتدى ... لا بنى نويرة مالك ومتمم (٢)

ففي هذه الأبيات ترديد المواضع بقصد التشويق والهاب الذكرى. ولعلك تنبهت إلى ترديد مواضع الحج، التي كان يترنم بها عُمر بن أبي ربيعة وأصحابه، وصار مداح الرسول فيما بعد يتغنون بها. ثم تأمل الأبيات الأخيرة، وانظر كيف خلص الشاعر من ذكر النوى إلي ذكر الفرقة من حيث هي، وتجمل بضرب الأمثال، والإشارة إلى شعراء نعرفهم، ويشجينا ما نظموه في رثاء من فارقوهم. وهذا النوع من الإشارة له وقع خاص، وتأثير عنيف، في قلوب من لهم عهد بلبيد وأربد ومتمم ومالك. والنقاد خاصة، يجدون فيه شجوًا من الطراز الصافي الخالي كل الخلو من النفحات الأرضية. ومن حذق البحتري أنه لا يسرف فيه إسرافًا يقرب به من جفاف العلم كما يفعل أبو تمام، أو يدينه من الوحشة المطلقة، ويشيع فيه روح العزلة الفنية الراضية بنفسها، الغانية عن غيرها، كما يفعل أبو العلاء المعري. وان كان هذا الأخير من احذق من تعاطوا هذا الضرب من الإشارات، وأقوالهم فعلًا في النفوس به وللبحتري من كلمة أخرى نونية:

وما ذكر الأحبة من ثبيرٍ ... وبلدح غير تضليل الأماني

نظرت إلى طدان فقلت ليلى ... هناك، وأين ليلى من طدان

ودون لقائها إيجاف شهٍر ... وسبع للمطايا أو ثمان (٣)


(١) ومنوا برائعة الفراق: أي أصابتهم هجمة الفراق التي تروع كما أصابتني، يدعو عليهم بذلك إن لم يبلغوا تحيته. ودعا عليهم بالفراق، لأن الفراق أخو السهاد والسهر وحرب النوم والدعة.
(٢) يشير إلى رثاء لبيد لأخية أريد، ورثاء متمم بن نويرة لأخيه مالك.
(٣) الإيجاف: هو السير السريع.

<<  <  ج: ص:  >  >>