النظم المادح الدنيوي إلى النظم المادح النبوي، واستبد بها الأسلوب الصوفي، لبست هذه المواضع صبغة روحية محضة. وصار موقعها في السمع يحمل مزيجًا من الشوق والحنين الذي أراده لها جرير، ومن نفحة الروعة والجلال الديني، التي تقترن أبدًا بالأسماء الدنية، مثل: طوبى، سدرة المنتهى في الملأ الأعلى، ومثل عرفات، والمزدلفة، والصفا والمروة في الملأ الأدنى. ودونك مثالا من شعر ابن الفارض (١):
أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحرًا فأحيا ميت الأحياء
أهدى لنا أرواح نجٍد عرفة فالجو منه معنبر الأرجاء
أنظر إلي قوله "أهدى لنا أرواح نجدٍ عرفة"- وكيف تهدي أرواح نجد عرف نسيمٍ سرى من الزوراء وهي بغداد؟ اللهم إلا أن تنتقل الزوراء ونجد جميعًا من عالم الحقيقة والأرض إلى عالم علوي تصير الزوراء نفسها فيه جزاءً من نجد، ونجد جزاءً من إقليم الحجيج، وإقليم الحجيج طرفًا من ساحة الرضا والقدس الصوفي المحيط بالحضرة النبوية؟
ومما يحسن الالتفات إليه أن اسم بغداد نفسها شاء له الجد السعيد أن يحظى عند الشعراء، وأن يذوب في جوهم النسيبي ذوبان سلع والعقيق. ولقد كان عبنًا أن ينعم الشعراء ببغداد وعلم بغداد وجمال في روحانياتها وجسدانياتها، ثم لا يثيبونها على ذلك بشيء، من بعد، على أن بغداد حين أنصفت وانتصفت، ورضي الشعراء أن يضيفوا اسمها إلى مجموعة الأسماء النسيبية المفعمة بالشوق والهيام، ولم تقدر على ذلك إلا بعد أن خلعت لفظها المعرب، الغارق في وحل الدنيا، واستبدلت به لفظًا عربيًا،
(١) ديوان ابن الفارض شرح البوريني مصر ١٣١٠ هجرية ٢: ١٤.