للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وثيق الصلة بالابتداءات القديمة، وهو الزوراء (١). أليس الفرزدق يقول (ديوانه ٢: ٨٥١):

تحن بزوراء المدينة ناقتي ... حنين عجول تبتغي البو رائم (٢)

ويا ليت زوراء المدينة أصبحت ... بأحفار فلجٍ أو بسيف الكواظم (٣)

وكم نام عني بالمدينة لم يبل ... إلى اطلاع النفس دون الحيازم (٤)

وزوراء المدينة: موضع قريب من مسجدها. وقد كانت المدينة بغداد العهد الأموي لرقتها وحضارتها. فلا غرو أن جعل المحدثون لبغداد زوراء كما للمدينة زوراء، ثم جعلوها كلها زوراء من باب المجاز المرسل، وإطلاق الجزء على الكل.


(١) يقال: إن بغداد سميت بالزوراء، لأن أبوابها الداخلة جعلت مزورة عن الخارجة ٠ ديوان ابن الفارض ٢: ١٤). وأحسب أن الأدباء أطلقوا عليها هذا الاسم. وكثير في العربية قولهم للبلدة زوراء أو فيها زور، كأنهم يشيرون لبعدها. وهذا الاسم نادر الاستعمال عند الشعراء الأوائل. ولكن المتأخرون أكثروا منه. وأحسب ابتداء ذلك كان في القرن الرابع، إذ كثرت فيه الرحلة إلى بغداد وقصائد الحنين إليها، وتجد ذكرها في تائية المعري:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا
استعمال اسم بغداد نفسه ليس بقليل. فهو موجود عند المعري. وقصيدة ابن رزيق "أستودع الله في بغداد لي قمرا" مشهورة. إلا أن اسم الزوراء اصطبغ بصيغة الحنين والشوق اللاواقعي أكثر من اسم بغداد، ولذلك أمكن له أن يخلص إلى الشعر الصوفي النبوي. هذا ولا ينقض ما ذهبنا إليه أن يكون ابن الفارض عني بقوله الزوراء المدينة. فاستعماله لهذا اللفظ مجازي على أية حال. أي إن كان استعملها بمعنى بغداد فمراد منها الحضرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وتسليم.
(٢) العجول: هي التي فقدت ولدًا. والبو: هو جلد ولد البهيمة الميت يحشى لترى أمه أنه هو، فتدر اللبن.
(٣) السيف: هو الساحل، يتمنى الفرزدق أن لو تحولت زوراء المدينة إلى فلج وسيف كاظمة، وكل ذلك بنجد وديار تميم.
(٤) يقول: كم نام عني الهم بالمدينة، إلا أنه قد عاد اليوم. وتفسير لفظه: كم نام عني تطلع النفس وارتفاعها دون الحيازم، وعنى بها: الصدر. واطلاع: فاعل نام. وفي الديوان جعله منصوبًا، ولا أدري كيف يوجه البيت على ذلك إلا أن يجعل فاعل لم يبل ضميرًا يعود على إنسان، وهذا لم يسبق له ذكر أو تنصب على نزع الخافض.

<<  <  ج: ص:  >  >>