للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا (١)

غداة غدٍ يا لهف نفسي علي غدٍ ... إذا أدلجوا عني وأصبحت ثاويا (٢)

وأصبح مالي من طريفٍ وتالدٍ ... لغيري وكان المال بالأمس ماليا

تأمل ترنم الشاعر بتكرار "العد" في البيت الأول، و"بالغد" في البيت الثاني و"بالمال ولامه" في البيت الثالث، ألا ترى أن قوله "مالي" إنما هو بمعنى الذي لي؟ وقد نقل الشاعر اللام منه إلى قوله "لغيري" ليزيد في الجرس والرنين؟ ثم عاد باللفظ نفسه كلمةً تامةً مرفوعةً عند قوله: "وكان المال" ثم كرره آخر مرة في قوله "ماليا"، ولك إن شئت أن تعد هذه كلمتين أو كلمة واحدة. وقال في ذكر مواضع أهله:

فيا فيا ليت شعري هل تغيرت الرحى ... رحى المثل أو أمست بفلجٍ كما هيا (٣)

إذا الحي حلوها جميعًا وأنزلوا ... بها بقرًا حم العيون سواجيا (٤)

رعين وقد كان الظلام يجنها ... يسفن الخزامى مرةً والأقاحيا (٥)

ثم بعد إذ ذكر الشاعر رحى المثل، وظباءها العين، وحشية وإنسية، بدا له أن يذكر السفر، علي النحو الذي يقع في قصائد الشعراء البداة- أليسوا يستهلون بذكر النساء، ثم يتخذونه ذريعة إلى ذكر السفر؟


(١) تقول: بعد فلان، بكسر العين: أي هلك، تدعو عليه بذلك. والشاعر هنا يستغرب من دعاء الناس للميت.
(٢) أدلج: سار بليل. وإنما ينظر الشاعر هنا إلى أنه غريب ومسافر، فكأن الذين يدفنونه يخلفونه ببلد بعيد ويدلجون عنه.
(٣) يشير إلى رحى بعينها، لعلها كانت تدار بالماء. وهذا أمر كان يعرفه أهل مشرق الجزيرة. (راجع خبر غزوة نهر الدم أيام أبي بك الصديق).
(٤) عنى بالبقر: النساء، وحم العيون: أي سود العيون.
(٥) قوله: وقد كان الظلام يجنها: يشير به إلى أنها رعت في الصباح، إذ هو الذي يبرزها للرائين. وفي هذا البيت استخدام، لأنه يريد به الوحش، وفي سابقه: يريد شبيهات الوحش من النساء.

<<  <  ج: ص:  >  >>