للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهل اترك العيس المتالى بالضحا ... بركبانها تعلو المتان الفيافيا (١)

إذا عصب الركبان بين عنيزةٍ ... وبولان عاجوا المبقيات النواجيا

لاحظ هنا ترديد المواضع عند قوله: "عنيزة" و "بولان":

فياليت شعري هل بكيت أم مالكٍ ... كما كنت لو عالوا نعيك باكيا

وهذا عندي من أرق الشعر وأفصحه بما يسميه الإنجليز "الرثاء للنفس". وأنت ترى هنا كيف خلص الشاعر من ذكر النساء على وجه التشبيب إلى السفر كما يفعل غيره من الشعراء. ثم ادكر أن غرضه حزين كله، لا موضع فيه لذكر الأسفار والفخر بركوب الأخطار فرجع إلى الحنين، وشاقه عهد امرأته، فجعل يخاطبها من وراء المفازة البعيدة، بهذا اللفظ الرقيق الرشيق. ولعلك تكون فطنت إلى ترديده للبكاء في صدر البيت وعجزه. وهذا الذي قلنا إن قدامة وأبا هلالٍ كليهما يسميه التوشيح:

إذا مت فاعتادي القبور وسليمي ... على الرمس أسقيت السحاب الغواديا (٢)

على جدثٍ قد خطت الريح فوقه ... ترابًا كسحق المرنباني هابيا

انظر هنا إلى تكراره "علي الرمس" و "علي جدث". فهذا مزج بين التكرار الترنمي والتكرار الملحوظ- أما عنصر الترنم فوضح، من حيث إنه كرر لفظًا كان ذكره في عجز سابق، في صدر لاحق. وأما كونه ملحوظًا، فهو استعمالك المرادف إذا ذكر الرمس أولا ثم الجدث ثانيًا، ولو مكنه الوزن لأعاد اللفظ نفسه.


(١) ويروى: على الريم، بفتح الراء وسكون الياء: وهو القبر. والمرنباني: فرو الأرنب، وهو مما يلبس، والعرب تشبه السافياء وما يبقى من آثار الدار بالثوب البالي، وسحق المرنباني هو ما بلي من، تقول: سحق عمامة: أي بقية عمامة بالية. بفتح السين.
(٢) المتان: عنى بها متون الأرض من الصحارى. والمبقيات هي التي لا تزال فيها بقية نشاك.

<<  <  ج: ص:  >  >>