للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمهلهل وأضرابهما كانوا يكرون أسماء مواضع لها صلة بواقع تجاربهم، زيادة على أنهم كانوا يقصدون بذلك التكرار تقوية ما همبسببه من نسيب أو حنين أو نحوه. أما جرير ومن جاء بعده، كما قدمت، إنما كانوا يكررون مترنمين بقصد إشاعة روح الشجن "والنوستالجيا" من غير مراعاة لوجود صلة بين ما يذكرونه من أسماء، وواقع الحياة التي كانوا يعيشونها أو يتغنون بها. وأبو تمام في اللامية وغيرها والبحتري في القافية وغيرها يرددان مواضع لها صلة حيوية قوية بما هما بصدد وصفه. ولعلك أن تكون قد تنبهت لذكر البذ وأبرشتويم وموقان عند الأول. وفي هذه القافية من شعر البحتري، ورد ذكر موقان (١) كما ورد في شعر أبي تمام، وفي غير هذه القافية ورد ذكر أرشق والبذ وسواهما من أسماء المواضع الأعجمية. ولعلك تذكر ما قدمناه من أن المواضع النسبيية قد التزم الشعراء فيها نهجا خاصا، وهو ألا يتجاوزوا ذكر الأماكن الواردة في أشعار القدماء، خصوصا شعر جرير، اللهم إلا فيما عدا الأديرة، وحتى الأديرة قد وردت في شعر جرير، فهم كما ترى لم يقيدوا أنفسهم في باب الوصف الحربي كما قيدوا أنفسهم في باب النسيب والحنين. والسر في ذلك عندي، أن دينا الحنين والنسيب قد نضج التعبير عنها كل النضج في الشعر القديم، حتى صارت أمثال سلع، ودارة صلصل، وسليمانين، لها بمنزلة المعالم، وحتى جاز للشعراء أن يستشعروا الحنين وشجن النسيب بمجرد ذكر هذه الأسماء. أما مواضع القتال التي ذكرها الجاهليون فإنما كانت ترتبط بأيام العرب ونحوها مما هو بمنزلة العبث إذا قيس إلى اليرموك والقادسية ونهاوند وصفين والغمرات التي خاضها المهلب والأزارقة وقتيبة بن مسلم ورجالات الحروب في الدولة العباسية. ثم إن ذكر المواضع الأعجمية كان أدل على حال هذه الحروب المتسعة الرقعة، وأفصح في التعبير عن مجد الخلافة، وبطولة


(١) وذلك قوله:
وسل الشراة فانهم أشقى به ... من أهل موقان الأوائل موقا
وهو البيت الثامن عشر من القصيدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>