للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يطير فضاضًا بينها كل قونسٍ ... ويتبعها منهم فراش الحواجب (١)

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

تروثن من أزمان يوم حليمةٍ ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب (٢)

تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب (٣)

وهكذا. وأسمى ما في هذا الشعر من تكرار الحروف ومزاوجة الكلمات وتوازنها: جناسًا خفيًا، لأن السامع والقارئ لا يكادان يفطُنان إليه، وإنما يهجُم عليهما الطرب هجومًا، خذ قوله: "يغرن مغارهم، والضاربات الدوارب" فهنا مزاوجة خفية لا تظهر أول الأمر. والذي له عهد طويل بصناعة الشعر، لا يكاد يفوته موضع الغينين في "مُغار، ويُغرن"، والشبه الوزني بين "الضاريات والدوارب" ولا سيما وأنت كثيرًا ما تقول: "الضواري، والداربات". وفي البيت التالي، راعى النابغة تكرار الخاء، حتى لا تصير خاء "خلف" منفردة جحيشة لا أخت لها، فجاء بها في قوله: "خزرًا عيونها"، وقوله: "جلوس الشيوخ". وراعي أيضًا التزام الثلاثي الساكن الوسط، على طريقة المجانسة الازدواجية في قوله: "خلف أقوم خزرًا". وعدل عن هذا إلى وزن "الفعول" عند قوله: "عيونها، جلوس الشيوخ". وفي البيت الذي يلي هذا عمد الشاعر إلى ألفاظ فجعلها أساس ترنمه، فتراها في قوله: "قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى"، ولما ذكر الجيم في أول الكلام، في قوله: "جوانح" عز عليه أن يتركها من دون مزاوجة، فجاء بقوله:


(١) القونس: أعلى الخوذة. وفراش الحواجب: عظامها الدقيقة. وفضاضًا: متفرقًا منتشرًا.
(٢) يوم حليمة من أيام العرب المشهورة، قيل: إن الغبار حجب فيه الشمس حتى أظلمت الدنيا وبدت النجوم، وهذا من المتناقضات، إذ الذي يحجب الشمس يحجب النجوم أيضًا.
(٣) السلوقي: عنى به الدرع. والصفاح: الحجارة. والحباحب: نوع من الذباب يضيء بالليل. يعني أن السيوف تقد الفارس الدارع وتسقط الضربة حتى يصادم السيف حجارة الأرض ويقدح فيها نارًا كنار الحباحب؛ وهذا من المبالغة.

<<  <  ج: ص:  >  >>