الشعر طبيعة جرسية، تقصد قصد الرنين والدندنة؛ والأصوات فيه تتداعي ويناغي بعضها بعضًا والشاعر لا يخلو حين ينظم من نوع من إرزام في الصدر مكنونٍ، أو بالغ مبلغ النئيج على أطراف الشفتين. وقد يتجاوز ذلك إلى شيء مثل البُغام وهدير القماري. وهو إذ يرصف كلماته في نسقٍ، متدفقًا في ذلك او متريثًا، لا يملك نفسه أن يضع كلمة من كلماته في موضع بارز في أول الشطر أو في أول العجر. ورنة تلك الكلمة حينئذ تكون بينة بارزة. خذ مثلًا الكلمة "فضاضًا" من قول النابغة السابق. فهي مثالٌ لما أزعمه من الكلمات البارزة تفاجئك بكينونة بينة عند أول الكلام، والشاعر حين تحصل له مثل هذه الكلمة، لا يملك نفسه من أن يلذع جرسها حسه، ويحفزه إلى أن يزاوج بينها وبين أخرى تشابهها وتباريها. فإما أن يجيء بذات وزنٍ مشابه لها، وإما أن يجيء بذات صوت مساوق مقارب. وهذا ما فعله النابغة عند قوله:"فراش الحواجب" فجاء بالوزن وبصوت الفاء. ولظهور الفاء نفسها من قوله "فضاضًا" وبروزها (وربما كان سبب هذا البروز هو تفرد الفاء مع ضادين وحركتين طويلتين"، احتاج النابغة إلى أن يقويها بفاءات مثلها في قوله: "فيهم، سيوفهم، فلول".
وتأمل قول عامر بن الطفيل:
وإني وإن كنت ابن سيد عامرٍ ... وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثةٍ ... أبى الله أن اسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها، وأتقي ... أذاها، وأرمي من رماها بمنكب
تأمل هذا، تجد قوله: "ابن سيد عامر" قولا بارزًا، له جرس يطلب ما يضاهيه ويوازيه ويجاريه. وقد فطن عامر لذلك، فألحقه قوله: "وفارسها" وهو يناسب "ابن سيد عامر" من جهة المعنى ومن جهة الرنين، لمكان الراء والسين، ثم احتاج بعد إلى إقامة الوزن، فلم يجد أفضل من إقامته بكلمة تحمل طرفًا من رنة ما سبق من