اتجاه ينهجه الشاعر، بعد أن توجد عنده الملكة والمقدرة، مردود من حيث إن ابن رشيق يجعل تكلف القدماء نوعا من الطبع، وتكلف المحدثين صناعة صرفا. وقد كان ابن قتيبة أحذق من، إذ اعترف أن التكلف في الشعر طريقه بإزاء الطبع، وأنه قد يقع للمتكلف ما يفسد شعره من الاستكراه، كما قد يقع له ما يرتفع به من قوة الدافع. وقد يقع للمطبوع ما يفسد شعره من موت الدافع والتدفق في لا معنى، كما قد يقع له ما يرتفع بشعره: من إصابة الغرض والسلاسة والانسياب. وسنفيض في الحديث عن التكلف والطبع والخيال المطلق والخيال النسبي، عندما نتعرض لمسألة الأسلوب إن شاء الله (١).
والذي يعنينا هاهنا، هو أن ننفي عن المحدثين أمثال مسلم وحبيب معرة ما وسمهم به الآمدي وقبيله كابن رشيق، من التكلف المزري، ونثبت للقدماء ما نفوه عنهم كل النفيـ من طلب الصناعة والتكلف، بمعنى التأني والتصيد والعمد.
وقد يقال: لإن هذا الذي سميناه جناسا ازدواجيا وسجعيا، ليس من مراد النقاد بهذا اللفظ في شيء. وإنما الجناس هو ما كان من نحو الأمثلة التي ضربها الآمدي وابن المعتز مثل {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ}[النمل: ٤٤]، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}[الروم: ٤٣]- وهذا لا مدفع إلى أنه غير كثير عند القدماء كثرته عند طبقة حبيب ومن تبعوه، كما أنه ليس بقليلٍ قلة ما يزعمونه، ويريدوننا إن نواطئهم عليه.
وهنا موضع مأخذنا على الآمدي ومن لف لفه. والذي نأخذه عليهم هو إغفالهم للكيف، واهتمامهم بالكم. وقد ذكرنا آنفا أن الجاهليين كانوا يتعمدون تزويج الألفاظ وتجنيس حروفها، وأن هذا أمر من طبيعة عمل الشاعر، وشيء تدعو إليه صناعة القريض دعاءً ملحا على أيه حال، لما تتطلبه من إقامة الوزن والموسيقا،
(١) راجع الشعر والشعراء ٢٣ - ٤١. وقد نجنى الدكتور مندور على ابن قتيبة أيما تجن عندما تعرض لنقد مذهله في كتابه "النقد المنهجي عند العرب"، وليته تدبر كلام ابن قتيبة.