وإنما قل الجناس المتشابه عند الجاهلين بالنسبة إلى شعراء المولدين، لأن أولئك كانوا لا يطلبونه هو، وإنما يطلبون الجناس السجعي، لإحداث الجرس بتكرار الحروف. وكان الجناس المتشابه يقع في تضاعيف هذا الجناس السجعي، كما في قول الأعشى:
وقد أروح إلى الحانوت يتبعني ... شاوٍ مشل شلول شلشل شول
ولو كانوا يطلبون الجناس المتشابه نحو:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ}[النمل: ٤٤]، لكنا قد كثر في كلامهم كثرة الجناس السجعي، كما في الأمثلة التي ذكرناها، وكما في قول الأعشى.
يهب الجلة الجراجر كالبستان تحنو لدرق أطفال
وهنا تأتي مسألة "الكيف" التي زعمنا أن الآمدي وأصحابه قد أغفلوها وأهملوها. وتفيلها: أن الشعراء المحدثين طلبوا الجناس المتشابه دون السجعي الذي كان الجاهليون يكثرون منه، أو بتعبير أدق، إن الشعراء المحدثين تعمدوا طلب أصناف الجناس المتشابه على اختلاف درجاتها، مما يقع فيه توافق الكلمات في الأصول دون مجرد تكرار السواكن (Alliteration) والحركات (Assonance) وتجانسها، وقد ألهاهم طلبهم للجناس المتشابه، وتصيدهم له، وحرصهم عليه عن سائر الأنواع السجعبة، فصارت يقع في تضاعيف الجاهليين اتفاقا.
وهنا نجد اختلافًا كاملا بين "كيف" الجناس عند الجاهليين ولفهم، والمحدثين من طبقة أبي تمام ولفهم. وهذا الاختلاف الكامل ليس منشؤه الصناعة والتكلف بمعنى التصيد والعمد الزائد، فقد أثبتنا الصناعة والتكلف بهذا المعنى للجاهليين، بدليل ما استشهدنا به من كلام زهير وأمرئ القيس وغيرهما. ولكن منشأ الاختلاف فيما أوي هو نفس طبيعة التباين بين مجتمع القدماء الجاهليين ومجتمع المحدثين المولدين. فهذا