للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المجتمع الثاني قد كان عباسيًا متحضرًا متأنقًا، خرج من دهر البطولة الذي كان يعيشه القدماء، إلى دهر الإقامة، الدائر كيانه على الأمراء والوزراء والتجار والصناع والأدباء والحلية والثراء والمباهج المدينة الكسروية القيصرية. وقد كان الإسلام بتعاليمه وعقائده هو المسيطر على هذا المجتمع الجديد. أو قل: قد كان هذا المجتمع الجديد صفرًا من القيم المشركية القديمة، وكان الإسلام، هو الذي فتح لهذا المجتمع الجديد أسباب الحضارة، وأعطاه الاعتداد والزهو والشعور بالفضل والزيادة على سائر مجتمعات الدنيا وحباه الملك الواسع بما ينضوي تحته من ترف ونعيم، وبؤس وجحيم.

وقد كان الإسلام دينًا يرفض الأنصاب والتصاوير وما يجري مجراها من آثار المشركين وكانت طبيعة المجتمع الحضري الجديد تدعو أشد دعاء إلى التصاوير التماثيل والفنون الجميلة المنظورة، وقد كان في هذه الفنون الجميلة المنظورة، لو قد سمح بها الدين، مجالٌ واسع للتعبير الحضري، وتنفيس عن ذوق المجتمع المولد الجديد. ولكن الدين لم يفعل ذلك. فكان لا بد لهذا المجتمع من أن يجد فنا آخر يعوض به فقدان الرسم والفنون المماثلة له، والمتفرعة عنه، وقد بدأت بوادر هذا النوع من التعويض في أواسط العهد الأموي، عندما اهتم الخلفاء بالعمارة، وجعل فن الزخرفة يجد سبيلة إلى تزيين المساجد. وقد سرى هذا الفن إلى العصر العباسي، ونما وازداد حتى وصل إلى الأواني والنسيج، وجعل يبرز في الخطوط. وما إن جاء القرن الثالث حتى صارت البلاد الإسلامية تمتاز بفن خاص هو فن الزخرف الهندسي، الذي قد صار من أكبر (بل لعله أكبر) وسائلها للتعبير عن جمال الدنيا ومعانيها الفنية.

ولا أشك أن الخط العربي كان سيختلف أي اختلاف عما هو عليه الآن من تقاطع وتوازن وقابلية عظيمة لعمل الزخارف الهندسية، لو قد كانت عقلية المدينة التي نشأ فيها عقلية لا زخرفية. لا ريب أن زخرفة الخط قد طلبتها العقلية الإسلامية

<<  <  ج: ص:  >  >>