الخط، فلم يبق إلا أن يعطيه ابن مقلة الصورة النهائية. واكتملت الموسيقا على يد الموصلي والواثق ومعاصريهما. وخمدت الثورات، واستتب الأمن، وانتظمت الدواوين. ورست حال المجتمع على نظام ينذر بالاستقرار والجمود.
وقد عبر أبو تمام عن منهج الزخرفة، لا في اللفظ فحسب، ولكن في الطريقة التي يكون بها تناول المعاني. وسنفصل هذا في موضعه. أنا من ناحية اللفظ، فقد أردك بثاقب فطرته أن الجناس هو أقوى وسائل الزخرف، لما يجتمع فيه من قوى التأثير المختلفة على الوزن من طريق الجرس، وعلى الجرس منطريق تشابه الحروف، وعلى الخط من طريق رسم الكلمات، وعلى العقل، من طريق الإيهام والتورية، التي تتبع تشابه الكلمات والحروف. وبدلا من أن يكفي نفسه طلب الجناس السجعي والمزدوج، كما كان يفعل القدماء، عمد إلى تقريب الأصول بعضها من بعض، وبناء المعاني التي يطلبها على ألفاظ قابلة للتحوير والتدوير. وربما تجاوز الفكرة إلى أختها إن كانت الألفاظ أطوع في الأخرى. وربما استكره الألفاظ على الفكرة إن كان لها مساس جوهري بموضوعه.
ومن أوائل ما توصل إليه أبو تمام، بابتداعيه لهذا الأسلوب، نوع غريب من التجنيس، ربما يصلح أن نطلق عليه لقب "التجنيس المجازي". وهاك مثالا منه قوله (١):
على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب
أقول لقرحانٍ من البين لم يضف ... رسيس الهوى بين الحشى والترائب
أعني أفرق شمل دمعي فإنني ... أرى الشمل منهم ليس بالمتقارب
فما صار هذا اليوم عذلك كله ... عدوي حتى صار جهلك صاحبي
وما بك إركابي من الرشيد مركبا ... إلا أنما حاولت رشد المركب