واعترافي بما اقترفت فكم قد ... ذهب الاعتراف بالاقتراف
عجب الناس لاعتزالي وفي الأطـ ... راف تغشي أماكن الأشراف
وجلوسي عن التصرف والأر ... ض لمثلي رحيبة الأكناف
ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أني أمرؤ كفاني كفافي
هذا وقد كان البحتري أقعد في الشعر (١)، وأعلم بموسيقاه، وأقدر عليها من حبيب لأن حبيبا كان من أصحاب الصناعة والفكر والترنم عن طريق الفكر. بينما كان البحتري من أصحاب الصناعة والانسياب معا، وممن يفكرون بالعقل والقلب معا، وممن يدركون أن جمال الجرس لا يتسنى عن طريق تسخير الجناس
والطباق للمقابلات المعنوية، وإنما عن جعل الجناس والطباق يسايران المقابلات المعنوية، فينزويان حين تبرز، ويبرزان حين تنزوي. وهذا سر إعراضه عن جناس المجاز، وإكثاره شيئا من جناس المتشابه وجناس الاشتقاق، على النحو الذي تمثلنا به.
ثم إنه قد أدراك من حقيقة الجناس الحرفي السجعي، ما غاب عن أبي تمام. فافتن فيه افتنانا ينظر بعين إلى منهج الجاهلين، وبأخرى إلى حاجة الزخرفة التي يتطلبها عصر وبيئته. وسينيته من أبلغ الأمثلة في هذا الصدد، خذ قوله فيها:
لا ترزني مزاولاّ لا اختباري ... عند هذي البلوى فتنكر مسي
وقديماّ عهدتني ذاهنات ... آبيات على الدنيئات شمس
ولقد رابني نبو ابن عمي ... بعد لين من جانبيه وأنس
وإذا ما جفيت كنت حريا ... أن أرى غير مصبح حيث أمسي
(١) لا يذهبن القارئ (من أجل قولي هذا) إلى أني أستحسن الأبيات الفانية التي ذكرت، فيها فهي عندي من رديء كلام البحتري. أما كون البحتري أفقد في الشعر فهذا من جهة أنه لو لم يكن شاعرا لم يكن بشيء يذكر وليس كذلك حبيب والله أعلم.