للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما رووه من أن الشريف المرتضي أو الرضي قد أمر بسحبه من رجله. وقد كان الشريف طعن في شعر المتنبي فدافع المعري عن صاحبه قائلاّ: لو لم يكن له إلا قوله:

لك يا منازل في القلوب منازل

لكفاه (١)، وكان يشير بهذا الى بيت المتنبي:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل

ففطن الشريف إلى مقصد المعري، ولم ير خيرا من أن يكشف حقيقته ويهينه على ملأ من الناس. وقد رجح "مرجليوث" أن هذه الإهانة قد كانت هي السبب المباشر في رجعة المعري من بغداد (٢). وانا لا أدفع ذلك كل الدفع. غير أنى أكتفي بأن أقول إنها كانت من ضمن الأسباب القوية التي استعجلت أوبته.

وقد وجد المعري نفسه بعد تطاول المدة عليه في بغداد، فقيرا معدما ليس أمامه إلا الخضوع كما ينبغي لمثله، أو الرجوع. ولعل الخضوع يطول ثم لا يجد من نفسه المقدرة على الاستمرار في تجرعه، أو ربما لا يحصل على ثمرة الخضوع بعد طول التجرع منه. ثم إنه قد كان ضعيفا، معتلا، ضريرا، لا يقوي، بعد الذي تعوده آنفًا من رأفة الوالدة وحنو الأقارب، على أن يعيش عيش "البوهيمية" البغدادية التي كان يعيشها أمثاله من المنتجعين وطلاب الأمل. وقد وصف المعري جانبًا من هذه الحياة في قوله (٣):

يمسي ويصبح كوزنا من فضة ... ملأت فم الصادي كسور دراهم

ولدي نار ليت قلبي مثلها ... فيكون فاقد وقدة وسخائم

عبثت بثوبي والبساط وغادرت ... في نمرقي أثرا كوشم الواشم


(١) يا قوت (٣: ١٢٥).
(٢) راجع مقدمة رسائل أبي العلاء.
(٣) التنوير ٢: ٩٨، يشير إلى أن الماء قد تجمد فصار كالفضة في الكوز.

<<  <  ج: ص:  >  >>