للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا وطئت عوداّ برجل حسبتها ... ثقيلة حجل تلمس العود ذا الشرع (١)

وهذا الوصف الجيد لا يمنعنا كون موضوعه تقليديا، من إدراك ما فيه من حرارة؛ العاطفة وتحرقها. وقد قدمنا لك أن المعري، لعلة العمي وحدها -ودع عنك ذكاء لبه، وتأجح قلبه-كان شديد الإحساس بوقع الأصوات والأنغام. وقد وجد من الحمامة مثيرا للشجن، كما قد وجد قبله حميد بن ور الهلالي، كما وجد شيلي وكيتس من شعراء الإفراج. وهو هنا قد تمثل في صوت الحامة طرب الثمل، وأنات المشوق، ونغمات العود. وقد اجتهد أن يبرز ما أحس به، لا في معانيه وحدها، ولكن في أصوات ألفاظه أيضا. تأمل نوناته في "سماويات لون، شكرن، سكرن" وتقارب الجرس بين السين والشين. وتعمد الجناس في "شكرن، وسكرن". ومن سمع صوت الحمام، لم يخف عليه ما في هاتين اللفظتين من المحاكاة الشديدة، لأصواتهن وبحسبه دليلا على ما أقول -إن لم يكن قد سمع صوت الحمام- إن العرب حاكته في موسوعتها اللغوية الرمزية بقولها: "ساق حر". ثم إن المعري ألح في إبراز الموسيقا الصوتية التي كان يسمعها من صوت هذا الطائر الغريد، فجنس في قوله "خطباء وخطيب"، وقوله: "العود" بمعني آلة الطرب، وترصيعه "عودا برجل" مع "ثقيلة حجل". ولا يفوتني هنا أن أنبه إلى اللفتة الجنسية في ذكره ثقل الحجل، وهو رجل كانت قوة شعوره بالجمال تبرز عند الملموسات. والمسموعات هذا، ولا تنس هذه الألفات الطويلة والياءات المشبعة التي ينادي بعضها بعضا في قوله: "تنمي، غضيض، وخطباء، وخطيب، وسماويات، وطيار الجناح، أشاح، وسطيحاّ، واعيا" في غير ذلك مما لا يستطاع استقصاؤه.

هذا، وإذ فرغ المعري من صفة الحمامة، وبلغ فيه إلى ذروة عاطفية، عمد بعد


(١) العود الأول: هو عود الشجر، والثاني: هو آلة الغناء. والشرع: جمع شرعة: وهي وتر العود -أي كأن الحمامة مغنية، تترنمبعود.

<<  <  ج: ص:  >  >>