للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا أحسب أن المعري كان يخفى عليه هذا المعنى الذي أراده الوليد. ولكني أظنه خطر بباله بيت الوليد لمعنى في نفسه، ثم رمز إلى هذا المعنى بذكر الوليد والإشارة إليه. ثم أراد أن يعمي، فنسب الوليد إلى الخطأ، وصحح خطأه بكلام إنما هو شرحٌ وتفصيل لما أوجزه الوليد. وعندي أن المعنى الذي دعا المعري إلى تذكر بيت البحتري هذا، هو قوله: "وعيرتني خلال العدم".

ولا شكٌ أن المعري كان معدمًا، أو كالمعدم عندما نظم هذه القصيدة. وأن عدمه كان من الأسباب المباشرة، التي دعت إلى هجرة بغداد، كما نبأنا هو عند قوله:

أثارني عنكم أمران والدة ... لم ألقها وثراء عاد مسفوتا

ثم خرج المعري من الرمز والإيحاء، إلى التصريح الواضح بما كان يحسه من لذع الفراق لبغداد، وذلك قوله:

أودعكم يأهل بغداد والحشى ... على زفرات ماينين من اللذع

وداع ضنى لم يستقل وإنما ... تحامل من بعد العثار على ظلع (١)

إذا أط نسع قلت والدوم كاربي ... أجدكم لم تفهموا طرب النسع (٢)

فبئس البديل الشأم منكم وأهله ... على أنهم قومي وبينهم ربعي

ألا زودوني شربة ولو أنني ... قدرت إذن أفنيت دجلة بالجرع

وأني لنا من ماء دجلة نغبة ... على الخميس من بعد المفاوز والربع

ثم حاول المعري أن يخفف من حرارة هذه العاطفة، ويستر توقدها بشيء من الصناعة، فقال:


(١) الضنى: هو المضنى المنهوك.
(٢) أط: صوت. والنس؟ : سير الرحل. والدوم: شجر شبيه بالنخل. وكاربي: مقترب مني. وهذا البيت عندي فيه محاولة للخروج من العاطفة إلى الصناعة المتئدة، ولكن المعري لم يقدر، فرجع وطاوع قلبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>