للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وساحرة الأطراف يجني سرابها ... فتصلب حرباء بريا على جذع (١).

ولكن عاطفته كانت أقوى من أن يسترها بشيء، فاستمر مندفعًا بعد هذه الدندنة المخفقة:

وما الفصحاء الصيد والبدو دارها ... بأفصح يومًا من إلهكم الوكيع

أدرتم مقالا في الجدال بألسن ... خلقن فجانين المصرة للنفع

سأعرض إن ناحيت من غيركم فتى ... واجعل زورا من بناتي في سمعي (٢)

ولا أظني محتاجًا إلى أن أنبه القارئ على أن أبا العلاء أعرض مرة واحدة في هذه الأبيات، عن ضروب الجناس المتشابه - فلم يكن سلطان العاطفة يدعه يفكر في ذلك، واكتفى بأسلوب العرب القديم، في الترنم بالحروف المكررة ومزاوجة الكلمات، تجد ذلك في غلبة الألف والمد والتشديد والتنوين على الأبيات الأول، وفي البيت الثاني للعين منه حظٌ وافرٌ. والرابع يكاد يكون كله ضمائر منتهية بالميم. وفي البيت الخامس تجد المزاوجة بين "قدرت" وأفنيت"، والمجانسة بين "دجلة" و "الجرع" و "إذن، وأفنيت، وزودوني، ولو إنني". ولا أحسبك خفي عنك مكان التجنيس. في قوله "الصيد والبو دارها"، أعني تجنيس الحروف، والموازنة عند قوله: "مقالًا في الجدال". وغاية الغايات، كما كان يقول الدكتور زكي مبارك رحمه الله، قوله: "وأجعل زوًا" - ولا ريب أن تعبيره بجعل الإصبع في الأذن تعبير صادق أيما صدق، إذ قد كان جل استمتاعه في بغداد يأتيه من جهة السمع. وقد كان يمكن المعري أن يقول: "وأجعل زوجًا" - ولكنه طلب الحركة المزدوجة، مبالغة في تصيد


(١) ساحرة الأطراف: هي الصحراء. والحرباء: يصعد على الجذوع عند اشتداد الحر ويلصق بها كالمصلوب. والمعري يقول هنا: وأنى لنا بماء دجلة بعد أن يطول بنا السفر في صحراء واسعة الأطراف ذات سراب خلاب ساحر، يجتى بخداعه، ولا يحل به العقاب على جنايته، وإنما يحل بالحرباء المصلوب على الجذوع.
(٢) زوا: يريد زوجًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>