للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجرس القوي، والموسيقا اللفظية. ولا مراء في أن زوًا، أقوى من ناحية الصوت في هذا الموضع من "زوجًا".

هذا، وقد استفرغ المعري عند قوله: "أودعكم يا أهل بغداد"، إلى قوله: "سأعرض" قطعة كاملة من معاني اللوعة والشوق. فرأى أن يستريح شيئًا إلى التغني والترنم، ريثما يستجمع في نفسه معنى آخر، ولا يستبعد أيضًا أنه كان يقصد بهذا التغني والترنم صرف القارئ شيئًا عن أن ينتبه إلى ما كان هو فيه من حرارة العاطفة. والذي قد طالت صحبته لأبي العلاء، لابد أن يكون قد استرعى انتباهه أن ذلك الشاعر المشتعل الصدر بالعاطفة، من أحرص خلق الله على ادعاء البرود والجمود، ليوهم الناس أنه مسكين مسكين، لا يملك من أدوات البشرية الساخنة شيئًا، حتى هذه العاطفة التي يفور بها دم الغريزة.

وقد بدأ المعري ترنمه بذكر شيء يناسب المعاني التي فصلها في الشوق، وذلك بأن أخذ يصف المشقات التي لاقته ولاقاها في طريق الرحلة إلى بغداد، من جوع وعطش ولص وسبع. وقارئ المعري، لا يملك نفسه من أن يسأل (لكثرة ما يصف هذا الشاعر مخاوف الطريق في قصائده) هل كان المعري لقي في بعض هذه الأسفار ما ذعره حقًا؟ والمعري يدعي الصبر والشجاعة فيما يصفه لنا. ولكن هل كان المعري صادقًا؟ أليس محتملًا جدًا أنه قد هلع حقًا، ومما زاد في هلعه، ضعفه وحاجته إلى من يأخذ بيده، وانصراف المعونة عنه، وهو في أشد الحاجة إليها، لانشغالها بخويصة نفسها؟ تأمل قوله:

عذيت النعام الروح دون مزاركم ... وأسهرني زار الضراغمة الفدع (١)

وما ذاد عني النوم خوف وثوبها ... ولكن جرسا جال في أذني سمع (٢)


(١) يوصف النعام بالروح بتحريك الواو، وهو تباعد الرجلين؛ والأسد بالفدع، وهو عكس الروح إذ أنه اعوجاج في الأرساغ، وتأمل الجناس الخفي في "مزاركم، وزار".
(٢) السمع: حيوان قوي حاسة السمع. يقول المعري: لم أسهر لخوفي من وثوب الأسود، ولكن لأني قوي السمع، وكان صوتها يزعجني.

<<  <  ج: ص:  >  >>