وهذا معنى واضحٌ صادقٌ، ناطق بحرارة ما كان يشعر به المعري، فرأى أن يترنم بعده، ليخفف شيئًا من حدته:
فليت حمامي حم لي في بلادكم ... وجالت رمامي في رياحكم المسع
وليت قلاصًا ملعراق خلعنني ... جعلن ولم يفعلن ذاك من الخلع
والخلع: طعام من أطعمه العرب "وهو أن تنحر الجزور"، ويطبخ لحمها بشحمها، ويطرح فيها توابل، ثم يفرغ في جلد، فيأكلونه في أسفارهم (١)" ولا يخفى أن المجانسة في "حمام. وحم"، والسجع في "رمامي"، وتكلف القافية - "المسع" (أي ريح الشمال)، وقوله: "خلعنني، والخلع"، كل ذلك ترنم، أريد به صرف الذهن عما كان يشعر به المعري من حسرة.
هذا، وبعد أن ظن المعري أنه قد أفرغ جهده من ترنم وبكاء وصناعة، وعرض على البغداديين آخر ما عنده من الإبداع، رأي أن يندمهم على ما فرطوا فيه، وأن يذكرهم بأنهم إنما يطرحون بطرحه درة، لا درة مثلها، فقال:
فدونكم خفض الحياة فإننا .... نصبنا المطايا بالفلاة على القطع
تعجلت إن لم أثن جهدي عليكم ... سحاب الرزايا وهي صائبة الوقع
ولا يخدعنك ما في البيت الأول من تلطف بالنحو وتسجيع في قوله "الحياة، والفلاة"، عما تحته من الدعوة الملحة لأهل بغداد ألا يفرطوا فيه، وأن يشركوه معهم، كما يشاء هو، في خفضهم.
هذا، ولما رحل المعري عن بغداد، ورأى أن قد حيل بينه وبينها، واستقرت به الحال على الاعتزال، والتبتل، والتزهد، جعل يراسل أصدقاءه بقصائد طوال، تحرى فيها أصنافًا من البديع، على أسلوب من الإغراب والتعمق، عندي أنه قصد