به إلى ما زعمناه آنفًا، من إظهار الاقتدار والجبرية، كما قصد به إبشام البغداديين، وإتخامهم من هذا الصنف من التعبير الذي كانوا يحبونه، ويودون أن يصنعوه ولا يقدرون عليه (١) هذا المزج الغريب بين مذهب البداوة والحضارة، وبين جزالة القدماء وصناعة المحدثين. والمعري الذي كان يحس الضعف، ويتحرق إلى أن يكتسب إعجاب المجتمع البغدادي المثقف، ويظفر بالاعتراف من قادته، قد صار في قصائده التي أرسلها من بغداد، يشعر بأنه أكبر من أن يقنع بمجرد اكتساب الإعجاب، صار يشعر بأنه قوي في وسعه أن يتفضل على بغداد، بعرض خزائنه في أبهتها الكاملة. ولبغداد أن تتخير منها ما تشاء، أو أن تنظر إليها نظرة الأسف على التفريط في صاحبها. أو تنبهر انبهار العاجز. لقد صار في ركنه المنزوي في معرة النعمان جبارًا طاغية، لا يبالي أن يرضي مجتمع بغداد كله، أو يطر به كله، وإنما يبالي بجانب واحد منه، هو العلماء، وخاصة الأدباء، وهؤلاء إنما كان يبالي بهم، لكي يشعهم بأنه أعلم وأقدر منهم. وقد ذكر بصراحة شيئًا يدل على هذا في قوله:
ولي حاجةٌ عند العراق وأهله ... فإن تقضياها فالجزاء هو الشرط
سلا علماء الجانبين وفتيةً ... أبنوهما حتى مفارقهم شمط
أعندهم علم السلو لسائلٍ ... به الركب لم يعرف أماكنه قط
وما أربي إلا معرس معشرٍ ... هم الناس لا سوق العروس ولا الشط
وقد انعكس هذا الاتجاه النفسي كل الانعكاس في جناسات المعري، في رسائله الشعرية إلى علماء بغداد. فقد سخر فيها حبه للغة، وغرامه بها، لإعجازهم وقهرهم. وتجد ما يتعاطاه من الجناس في هذه الرسائل، من طراز كأنما أريد به التحدي وحده ليس إلا. والغالب عليها أصناف الجناس المتشابه والتام والموهم دون
(١) لا يناقض هذا ما ذكرناه آنفًا من أن المعري كان له من نفسه شيطان يغريه باللعب اللفظي، فقد كان من دهاء المعري البالغ تسخيره هذا اللعب، للنكاية بعلماء بغداد.