للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا يصفن الفتاة التي يبغين تحبيبها إلى الفتى الراغب في التأهل، حتى يصورنها له بصورة الكمال الذي لا بعده، وعندئذ يقلن له:

فلا تستكثر الهجمات (١) فيها ... فإعراسٌ بتلك دخول جنه

ولم لا يكون بمنزلة الدخول في الجنة والفتاة الموصوفة في الغاية العالية من شرف العشيرة، وبهجة الطلعة، وغضارة الشباب، وكمال الأنوثة، وفرط الحياء، وتمام العفاف، وكرم الخلق - ولكن ألا يمكن أن تكون كل هذه الصفات مبالغا فيها؟ لا، بل أليس الراجح أن هؤلياء الخطابات ذوات لسن وبلاغة، مع جراءة على الكذب، وزخرفة الأباطيل! وهنا تحذر العجوز ابنها من كيدهن قائلة:

أولئك ما أتين ينصح خلٌ ... وما دن الميلك ولا يدنه

ولو طاوعتهن لجئن يومًا ... بأخت الغول والنصف الضفنه

أي المترهلة.

وأي شيء أدهى من السعلاة أخت الغول، ومن النصف المترهلة، التي خير نصيفها ما ذهبت به الليالي؟ وكم من فتى غرته هؤلاء الخاطبات، فأعرس بمن كان يظنها شقيقة البدر، وقسيمة الشمس. فإذا بأسمج من قرد، وأيبس أديما من شن بال.

هذا، وأحسب المعري في درعيته هذه وفي غيرها من درعياته، يكني بالدرع عن هذا القانون الصارم الذي فرضه على نفسه من التبتل (٢). وفي هذه الدرعية


(١) الهجمات: جمع هجمة، بفتح الهاء، وهي القطيع من الإبل.
(٢) أي ترك النساء. وفي شعره ما يؤيد فرضنا هذا. ففي الدرعية الأولى وصف رجل كل عن حمل السلاح وجفته النساء. وقد كان أبو العلاء حينئذ شيخًا مل الحياة وكرهها، وجاوز سن الصبوة. وفي الدرعية الثانية عشرة، يجعل أبو العلاء نفسه ضيفًا لدى امرأته يريد أبوها أن يشتري منه درعًا وهو يأبى، وتحاول أن تخدعه بقدح من الخمر، فيقول لها:
ألم تعلمي أني مدامة بابلٍ ... هجرت ولم أشرب خبيئة عانه

<<  <  ج: ص:  >  >>