أترى النعمان يخرج عن سنة التطير والتفاؤل التي درج عليها قومٌ بعده، ممن هم أرقى، وأبعد في الحضارة، وأجدر ألا يتأثروا بالخرافات الوثنية؟ -هذا على أنه كان ملكًا في الرقعة التي كان فيها ملك بابل، مهد السحر، وأرض هاروت وماروت.
والذي أراه أن النابغة أراد أن يستثير جانب الرقة من النعمان، فذكره بالموت؟ وربط هذه الذكرى بما يمكنه هو له من الودّ والمقة وكأنه أراد أن يقول له: أيها النعمان، هبني أتيت الحيرة، فلم أجدك، ولكن وافيت نعشك محمولًا على الأعناق؟ ماذا تراني كنت فاعلًا؟ أكنت أبكي وأرثي وأشجي، أم كنت أشمت كما سيشمت أعداؤك؛ وكأنه طلب من النعمان أن يحتكم إلى خويصة ضميره فإن كان يجد في هاجس نفسه أن النابغة مذنب يستحق العذاب، وعدو لا هوادة عنده، فليفعل ما شاء. أما إن وجد نفسه تخبره بصدق النابغة، فلا سبيل إلا العفو، وجليّ أن النابغة كان صادقًا نبيلًا حرّ النفس حين قال ما قال. وعندي أن هذا من أبلغ ما قيل في الاعتذار، وأصحه وأدله على صفاء النفس، وخلو الجانب من الملامة. وهو يشعر كما ترى، بأن النابغة لم يكن -حين اعتذر إلى النعمان- طالب دنيا وجاه، وإنما كان طالب ود، وعلاقة. وهذه الأبيات من خير ما يفصح بجلية ذلك.
وأحسب أن في الأمثال التي ذكرتها لك أيها القارئ الكريم، نضّر الله ساعتك بالرفة والنعمة، محسبًا، ودليلًا قاطعًا على أن الجاهلين كانوا يكثرون من تعاطي الطباق. وإن رمت أن أعزز لك هذا بأمثلة من شعر الإسلاميين الأولين، فدونك هذه الأبيات من شعر قيس (١) بن ذريح:
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لفارقتها من حبها وقصيت