(نقد الشعر ٢٨): "وأكثر الشعراء المصيبين، من القدماء والمحدثين، قد غزوا هذا المغزى، ورموا هذا المرمى، وإنما يحسن إذا اتفق له في البيت موضع يليق به، فإنه ليس في كل موضع يحسن، ولا على كل حال يصلح، ولا هو أيضًا إذا تواتر واتصل في الأبيات كلها بمحمود، فإن ذلك إذا كان، دل على تعمد، وأبان عن تكلف، على أن من الشعراء القدماء والمحدثين، من قد نظم شعره كله، ووالى بين أبيات كثيرة منه، منهم أبو صخر، فإنه أتى من ذلك بما يكاد لجودته أن يُقال فيه: أنه غير متكلف إلخ". وكأن أبا هلال، قد هاله أن يقدم قدامة قاعدة، ثم يرجع فينتقضها محاباة للقدماء، فانبرى هو ليعود به، إلى رشده وينبهه على أن القدماء أنفسهم قد وقعوا في التكلف، لا يستثني منهم أبا صخر، ولا أبا المُثلم، ولا الخنساء كما رأيت.
ولا يخالجني ريب في أن قُدامة قال ما قاله، من أن كثرة التقسيم المسجع المرصع في الشعر، والموالاة بين أبيات منه في كلمة واحدة، تدل على التكلف، مدفوعًا بحكم العادة التي جرى عليها نقاد عصره، من تحذير المولدين، وصرفهم ما استطاعوا عن الإكثار في التجنيس والتصنيع، وما أحسبه إلا قد ندم على ما قدمه هكذا مندفعًا، بدليل اعتذاره عن أبي المثلم، وأبي صخر وزعمه أن ترصيعهما غير متكلف، على توافره، ولعله مما زاده ندمًا، أنه لم يجد عند المولدين شيئًا يُضاهي ما جاء به هذان، من التزام الترصيع، وقوة النفس.
وقد غلب على أبي هلال ذوقه الحضري، وطمى على حاسته النقدية، فحكم بالتكلف، ضربة لازب، على كلام الخنساء وأبي صخر وأبي المُثلم، لاشتماله على عنصري، السجع والموازنة. وفي قلة التقسيم المسجع المتوازن بين أشعار المحدثين، ما ينبئ عن قوة الذوق الحضري، الذي كان يتحدث بلسانه. إلا أنه، من حيث كونه ناقدًا، قد عجز كل العجز، أن يفطن إلى أن هذا النوع الذي كان يرد في أشعار القدماء من التقسيم، لا يمت إلى صناعة المولدين بشيء، وليس بين "تكلفه"