الوزن في صيغة بدائية من فارس، أو من الشعر اليوناني، من طريق آثاره التي تركها في الأدب الفارسي بعد غزوة الإسكندر. وقيام مستعمرة إغريقية في بلاد ما وراء النهر!
ولا يهولنك هذا الحدس، فتطالبني بالدليل النقلي. فأنا لا أزعم أن بعض العرب الأولين اطلعوا على "أوميروس" في كتاب إغريقي، أو زيروا صحفية مما خلفه دارا وقمبيز، وإنما ألتفت إلى هذه الطريقة المحكمة من العروض والقافية، التي سلكها العرب، فأعجز أن أقتنع بأن الفطرة السليمة وحدها، هي التي طورتها من الموازنة والازدواج إلى هذا القدر العظيم من الإحكام، الذي يعتمد على كم المقطع ورنته، لا مقابلة التركيب بالتركيب، كما هي الحال النظم العبرية القديمة، ثم أنظر في حال الأمم القديمة، فأجد الإغريق هم قد احكموا الشعر في الزمان الغابر، مثل إحكام العرب، "وأكثر من أحكامهم في رأي النقاد الفرنجة". وقد عرفوا الوزن المقطعي والكمي: سداسيًا وغير سداسي، وعليه بنوا روائعهم في الملاحم والمسرحيات. هكذا يخبرنا النقاد الإنجليز الذين درسوا الإغريقية، عندما يعرضون تحليل الوزن عند شعرائهم أمثال شكسبير، ومارلو، وبوب، وهؤلاء الإغريق قد فتحوا الدنيا في عهد الإسكندر، وأثروا أعظم تأثير في الفرس من جهة دولتهم التي شادوها في بلاد ما وراء النهر. ثم جاء الرومان أولو الملك الواسع، فنشروا علم يونان في كل مكان. وأنت تعلم أن حدود دولتهم كانت عند الفرات وبادية الشام، وأن سفنهم كانت تصل إلى بلاد اليمن وحضر موت. ثم بعد تصدع دولة الرومان القديمة، ونهوض بيزنطة بالمشرق، استحكم الاتصال بين الإغريق والفرس (١).
(١) وقد ظل هذا الاتصال قويًا إلي قريب من ظهور الإسلام. ولاسيما بعد أن أغلق الإمبراطور بوستنيان مدرسة أثينا سنه ٥٢٩ م، وطرد علماءها. فهؤلاء أوي كثير منهم إلى فارس. وأسست فيما بعد مدرسة جندي سابور. وكان لها أثر عظيم في الفرس الساسانيين. على أننا لا نريد أن نزعم، أن هذه المدرسة أحدثت أثرًا في تطور النظم العربي، فتاريخ تأسيسها حديث جدًا بالنسبة إلى قدم التطور الذي تطوره هذا النظم، أليس أمرؤ القيس الكندي قد عاصر بوستنيان، وإليه كانت رحلته التي وصفها في الرائية الرائعة؟