وكلا المدنيتين الإغريقية والفارسية (التي تأثرت بها) كانتا تتاخمان بلاد العرب والأستاذ الكبير "أرنولد توينبي" يقول في كتابه: "دراسة في التأريخ"، في غير ما موضع واحد، إن المدنيات العظيمة كانت لا تملك أنفسها من إرسال "إشعاعات" تجتذب تلك الأمم، فبعضها يخضع للمدنية العظيمة ذات الإشعاع، ومثل هذا قد حدث فرنسة وبريطانيا بعد فتح الرومان، وبعضها يعدو على المدينة العظيمة ويخربها، ونحو من هذا قد حدث لروما على أيدي القبائل المتوحشة في القرن الخامس الميلادي، ولبغداد على أيدي التتار، في القرن الثالث عشر.
ولا يفوت الأستاذ "توينبي" وهو يقص علينا أمر الرومان واليونان، أن يذكر أن مدنياتهم قد أرسلت "إشعاعات" قوية، وصلت إلى أعماق الجزيرة العربية، وأن هذه الإشعاعات قد اجتذبت العرب، فانضوى بعضهم في ظل المدينة الرومانية والفارسية، كالذي حدث من أمر "تدمر" في عهد أورليان وقبله، وكالذي حدث من شأن لخم وغسان، ثم اعتدي سائرهم علي كلتا دولتي فارس والروم، حين فاض الإسلام.
وأدلة هذه "الإشعاعات" التي كانت ترسلها الحضارة الإغريقية من طريق فارس أو غيرها (وطريق فارس أرجح عندنا، ما سنذكره فيما بعد) واضحة، تقريناها في كلام الجاهلية القديم. وأسوق لك على سبيل المثال قصه "ذات الصفا" التي جري بها المثل، ونظم فيها النابغة أبياته الرائية. وأصل هذه القصة "كما هو معروف" من خرافات "إيسوب (١) ".
فهل تستبعد إذن، أيها القاري الكريم، أن يكون الوزن المحكم من بعض ما وصل من " إشعاعات" المدينة الإغريقية الفارسية؟ ألا تجد أن اللغة السريانية قد
(١))) بل لعل أصل خرافات يسوب عربي فعند العلماء أدلة تشهد الآن بفهم أخذه اليونان الأولين عن العرب والله أعلم.