الذي كان عماده الموازنة والسجع والمزاوجة والتقسيم، حتى أحدثت فيه معجزة التغيير، التي أدت إلى اختراع البحور.
ولعلك تقول لي: إنك استدللت بالسريانية، لتقوي أمر ما تزعمه من تأثر العربية بالمدينة الإغريقية الفارسية. فلماذا تهمل أمر العبرية وتغفل عنه، وأدبها أعظم وأعمق واليهود، من بين سائر الأمم، اتصلوا بالرومان واليونان والفرس اتصالا أقوى وأعنف مما اتصل السريان؟ أليس اليهود قد عاصروا رمسيس وبختنصر وكورش وأباطرة الرومان جميعًا؟ فلماذا لم يقتبسوا الوزن من الإغريق أو الرمان؟ أو من أي أمة عساها أن تكون اقتبسته من هاتين الأمتين؟ لماذا لم يسبقوا العرب إلى الكامل والوافر والبسيط أو شيء نحوهما، إذ قد كانت لديهم أداة التأثر كاملة؟ وهذا الاعتراض يحمل فيطياته عناصر الرد عليه. ذلك أن اليهود أمة في غاية الغايات من المحافظة على التراث القديم والحرص على إبقائه نقيًا، وكانوا أمة ذات كبرياء، معتزة بتواراتها ومزاميرها وأخبار صلحائها، فخزرًا بما خصها الله من النبوة والكتاب. وكانت تأنف من أن تدنس هذه الخاصة التي خصها بها الله، بالزينة التي كانت تراها عند أبناء الغرل والأميين (هكذا كان بنو إسرائيل يسمون غيرهم من الأمم). فهذا فيما أرى هو سر إعراضهم عن أن يأخذوا الوزن عما سمعوه من شعر اليونان وغيرهم. على أن المتأخرين منهم جدًا، لم يستنكفوا أن ينظموا في الوزن المقطعي اللاكمي، وفي أوزان عروضية أخذوها من العرب المسلمين.
وقد كان أهل مشرق الجزيرة العربية، من قبائل ربيعة وتميم وإياد، هم أول من نقل الوزن عن فارس فيما أرى، لقربهم منها، واحتكاكهم بها، وقلة تحفظهم في الأخذ عن مدنيتها، والمحاكاة لها ما استطاعوا. كما قد كان أهل الحجاز هم آخر من استعمل الوزن، وإنما أخذوه من جيرانهم من المجموعة التميمية. ولعلك تقول: إن بعد الحجاز عن فارس، ليس معناه أن الحجاز لم يتصل بالأجانب، فتجارة مكة ورحلاتها الصيفية والشتوية وحدها، دليل كافٍ على أن العرب الحجازيين عرفوا