للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا، وأحسب أن بحري الطويل والبسيط، إنما صارا أجل بحور الشعر العربي، وأعمرها بالنغم، وأصلحها للكلام القوي الجزل الفحل، لما اجتمع فيها من رصانة الموازنة بكامل أداتها، وتمام الوزن كما أخذ في أصله من المشارقة، وصلاحية أرباعها للأقسام، وإيهام الأقسام، كما ترى، جعلهما من أحب الأوزان إلى الحجازيين وأعلقها بآذانهم، ولعل الحجازيين أن يكونوا هم الذين اخترعوهما في صيغتهما الكاملة، بعد أن وصلتهم أصولهما من المشرق. ويقوي هذا ظهور التقسيم واضحة في الأمثلة التي ذكرناها من شعر هذيل ولا سيما الرصع المسمط منه، وفي شعر امرئ القيس ولا سيما المسجع والمزاحف منه، ولعله أخذه عن بني أسد (١).

وقد لبس الطويل والبسيط في شعر النابغة وتزهير أبهتهما كاملة. وإنك لتجد هذين الشاعرين اللذين تنكبا البحور القصار والخفيف والمنسرح كل التنكب، (ربما لعدم الثقة من أنفسهما أن سيحكمان أوزانها)، قد بلغا من تصنيع الطويل والبسيط المبلغ الذي لا بعده. فقد كانت روح الموازنة الحجازية الراقية، لا البدوية الخشنة، كالتي كانت عند أسير وهذيل وسليم، راسخة في نفوسهما وأنفس الذين عنها أخذوا، فتجد النابغة مثلاً، زوج هذه الموازنة إلى أشطار الطويل، في الأكثر الغالب، لا إلى أقسامه، وتعمد بذلك أن يجري هذا البحر إجراء يوهمك به أنه من قبيل النظم التوازني القديم، برغم القافية ورصانة الوزن وإحكامه، تأمل قوله (٢):

وإني لألقى من ذوي الضغن منهم، ... وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره

كما لقيت ذات الصفا من خليلها، ... وما انفكت الأمثال في الناس سائره

فقالت له أدعوك للعقل وافياً، ... ولا تغشيني منك بالظلم بادره،


(١) أوهم أخذوه عنه والله أعلم.
(٢) نفسه: ٢٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>