هنالك إن يستخبلوا المال، يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا، وإن ييسر وايغلوا،
وفيهم مقامات حسان وجوهم ... وانديه ينتابها القول والفعل
على مكثريهم رزق من يعتريهم، ... وعند المقلين، السماحة والبذل،
وهكذا بلغ النظم الذي لعله بدأ موازنة وتقسيماً في الدهر السالف، ودخله الوزن من طريق ربيعة وإياد وتميم، كماله وغاياته، بعد أن تزاوجت فيه الموازنة، بالوزن المقطعي الكمي التزاوج التام، واستخدما التقسيم خفياً وجلياً بين أيديهما وصيفاً ومنصفاً وساعياً ومبارياً.
ولما بلغ الوزن هذا الإحكام، تم معه أيضاً إحكام البيان، على الأسلوب الرمزي، الذي يستهل بشجن النسيب ثم يسيح في الفلوات، ثم يخلص بعد ذلك إلى الغرض المراد، خلاص لا يراد منه الإفصاح، كما يراد الترنم والإيماء. وكان هذا الأسلوب الرمزي، مع ما يمازجه من الانسجام الموسيقي اللفظي المركب، يعكس صورة هذه البداوة المتحضرة في وثنيتها، التي نسيت الإله الغيور الفرد ذا الحرم المقدس بمكة، وعكفت على بطولة قوامها فضائل مستمدة من الفطرة السحيقة والمدنيات الكافرة المجاورة. وحتى أهل الحجاز المحافظون قد بلغهم نضج هذه الوثنية، فضربوا في غمرتها بسهامهم. ألم ينتقل الشعر من تميم إلى قيس؟ أم لم يصر النابغة وزهير وأوس هم فحول الشعراء لا يزاحمهم في ذلك إلا الأعشى، الذي كان على ربعيته شاعراً جوالاً، يمدح سادات قيس، ويدخل في منافراتهم، ويتاح رفدهم، ويباري شعراءهم؟
لا، بل حتى قريش الحمس حقاً الذين كانوا أقل الناس نصيباً من الشعر، قد أصابتهم موجة هذه البلاغة الوثنية الناضجة، فجعل ينبت بينهم الشعراء، الذين ينظمون في الطويل والوافر - أليس يخبرنا أصحاب السير، أنهم تعاضدوا على هجاء النبي صلى الله عليه وسلم؟ ألا يذكرون عبد الله بن العري وأبا عزة الذي أسر ثم