ولعلك لمحت نفس القرآن في كلام على وبتراء زياد. وقد كان الحجاج شديد الأخذ، كثير الاقتباس، من القرآن يُضمنه خطبه تضمينًا كالذي وقع منه في قوله:«والله لأحزمنكم حزم السلمة. ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان. فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وإني والله لا أقول إلا وفيت. ولا أهم إلا أمضيت. ولا أخلق إلا فريت».
وتأمل رسائل عبد الحميد والناس ينسبون إليه أنه أبو الكتابة، وليس معنى ذلك أنه لم تكن كتابة قبله، ولكن العرب كانت تؤثر ببلاغتها المنابر. ومتى عمدت إلى الكتابة نأت عن التزيين ما استطاعت لأسباب منها حاجتها إلى إبلاغ الناس جمعاء، إذ كانوا هم السند والعضد، ولم تكن تحس مثل هذه الحاجة حينما تروم بلاغ فرد. ومن شواهد ذلك البالغة ما روي من كتاب خالد إلى عياض:«آياك أريد» ولم يزد على هاتين الكلمتين شيئًا. ومنها ندرة الورق والرق الذي كان يُكتب عليه، فكانت هذه الندرة مما يدعو إلى الاقتصاد في اللفظ وإيثار الإيجاز.
وقد جعلت الشقة بين الخلفاء وأمرائهم وبين سائر الناس تتباعد شيئًا فشيئًا بعد زمان عبد الملك. فصار الخلفاء وأمراؤهم يستغنون شيئًا فشيئًا بالإطناب إلى عمالهم في الرسائل دون الاحتفال للخطب العامة. ورسالة عمر في القضاء فلتة في زمانها من حيث إن فيها طولاً ما، وهي في جملتها أشبه بالخطبة المحكمة منها برسائل المتأخرين، وكذلك رسالة علي إلا الأشتر، إلا أني أميل إلى الشك في نسبتها إليه، وعسى أن يكون انتحلها أناس من شيعة على الأقدمين ليضاهوا بها رسالة عمر في القضاء. وقد شهد زمان عبد الملك خطباء فصحاء كثيرين من أمثال الأشدق والمختار ومصعب وعبد الله بن الزبير والحسن البصري وقطري بن الفجاءة والحجاج وعبد الملك نفسه. ثم إن الخطباء أخذوا يقلون بعد ذلك حتى إنك لا تجد بين رجالات