«أما بعد، فإن الله جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور وجعل فيها أقسامًا مختلفة بين أهلها. فمن درت له بحلاوتها وساعده الحظ فيها. سكن إليها. ورضي بها. وأقام عليها. ومن قرصته بأظفارها. وعضته بأنيابها. وتوطأته بثقلها. قلاها نافرًا عنها، وذمها ساخطًا عليها. وشكاها مستزيدًا منها. وقد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها. وأرضعتنا من درها أفاويق استحليناها. ثم شمست منا نافرة. وأعرضت عنا متنكرة. ورمحتنا مُولية. فملح عذبها. وأمر حلوها وخشن لينها. فمزقتنا عن الأوطان. وقطعتنا عن الإخوان. فدارنا نازحة. وطيرنا بارحة». وهلم جرا.
وهذه القطعة تصلح شاهدًا على ما زعمناه من ميل عبد الحميد بأسلوب الخطابة إلى شيء من الأناة التي تكون مع رؤية العزلة والاحتفال. ولا يخفي بعد ما التزمه عبد الحميد من التقسيم المتتالي والإيقاع المنتظم.
وابن المقفع دون عبد الحميد اسماحًا، ولكنه مثله يتحرى التقسيم وتجويد الإيقاع وشواهد ذلك كثيرة في نثره. وقد وصمه الدكتور طه حسين في كتابه من حديث الشعر والنثر. بشبه الاستشراق في بعض ما يستكرهه من القياسات. ولا أرى كيف تأتي الدكتور طه حسين إلى هذا القول على ما عنده من دقة البصر وبعد الغور وصفاء الذوق إذ ليس ما يضعف فيه ابن المقفع بمبلغه إلى العجمة ضربة لازب، على أنه كان أصله أعجميًا. والرجل بعد ممن عبدوا طريق الكتابة. وليس ما يلاقيه المبتدئ من حزونة البداية كما يلاقيه التالي من سهولة الإتباع. وإليك بعد هذه القطعة من الأدب الكبير:«ابذل عدلك وانصافك. واضنن بعرضك عن كل أحد». (رسائل البلغاء- مصر- ١٩٥٤ - ٧١).
وهذه القطعة من الأدب الصغير:
«وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارًا، ذكرًا يباشر القلوب،