الوزن المحكم فأصاب، وله في المقامات ما يدل على بصر بنفوس الناس ودقة في الملاحظة، وتصرف في الخيال ومقدرة على التمثيل ذي الروح المسرحي وأضرب مثلاً لذلك مقامته الخمرية (١) وله منها:
«ولما حشرج النهار أو كاد. نظرنا فإذا برايات الحانات أمثال النجوم في الليل البهيم. فتهادينا بها السراء. وتباشرنا بليلة غراء. ووصلنا إلى أفخمها بابًا وأضخمها كلابًا. وقد جعلنا الدينار إمامًا. والاستهتار لزامًا. فدفعنا إلى ذات شكل ودل. ووشاح منحل. إذا قتلت أحاظها. أحيت ألفاظها. فأحسنت تلقينا. وأسرعت تقبل رؤوسنا وأيدينا. وأسرع معها العلوج. إلى حط الرحال والسرج. وسألناها عن خمرها فقالت:
خمر كريقي في العذو ... بة واللذاذة والحلاة
تذر الحليم وما عليه ... لحلمه أدنى ملاوة
كأنما اعتصرها من خدي. أجداد جدي. وسر بلوها من القار بمثل هجري وصدي. وديعة الدهور. وخبيئة جيب السرور. وما زالت تتوارثها الأخيار. ويأخذ منها الليل والنهار. حتى لم يبق إلا أرج وشعاع. ووهج لذاع. ريحانة النفس. وضرة الشمس. فتاة البرق. عجوز الملق. كاللهب في العروق. وكبرد النسيم في الحلوق. مصباح الفكر. وترياق سم الدهر. بمثلها عُزر الميت فانتشر. ودووي الأكمه فأبصر. قلنا هذه الضالة وأبيك. فمن المطرب في ناديك. ولعلها تشعشع للشرب بريقك العذب». إلى آخر ما قاله.
وهذا كما ترى فيه نظر شديد إلى مذهب أبي نواس في نعت الخمر والقيان ولو قلت، نظر إلى الأعشى ما باعدت.
(١) مقامات البديع، شرح محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر، ١٩٢٣ - ٤١٠.