وابن العميد أدنى إلى مذهب الجاحظ في الاعتماد على أصالة الغرض وتسخير الإيقاع للبيان، إذا قرنته إلى الصاحب والبديع وأشباههما. ولا أقول هو أدنى إلى الجاحظ في العموم، إذ روم الشكل السجعي الذي يضاهئ القصيدة. ويحاول التفوق على بلاغتها، واضح في طريقته. خذ مثلاً قوله:«وزعمت أنك في طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسطها، وإذ كنت كذلك فقد عرفت حاليها. وحلبت شطريها. فنشدتك الله لما صدقت عما سألتك: كيف وجدت ما زلت عنه؟ وكيف تجد ما صرت إليه؟ ألم تكن من الأول في ظل ظليل. ونسيم عليل. وريح بليل. وهواء عذي. وماء. روي. ومهاد وطي. وكن كنين. ومكان مكين. وحصن حصين. يقيك المتألف. ويؤمنك المخاوف. ويكنفك من نوائب الزمان ويحفظك من طوارق الحدثان. عززت بعد الذلة. وكثرت بعد القلة. وارتفعت بعد الضعة وأيسرت بعد العسرة. وأثريت بعد المتربة. واتسعت بعد الضيقة. وظفرت بالولايات. وخفقت فوقك الرايات. ووطئ عقبك الرجال. وتعلقت بك الآمال. وصرت تُكاثر بك. وتشير ويشار إليك. ويذكر على المنابر اسمك. وفي المحاضر ذكرك. ففيم الآن أنت من الأمر؟ وما العوض عما عددت؟ والخلف مما وصفت؟ وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك؟ ونفضت منها كفك؟ وغمست في خلافها يدك؟ وما الذي أظلك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظل ذو ثلاث شعب؟ لا ظليل ولا يُغني من اللهب؟ قل نعم كذلك والله أكثف ظلالك في العاجلة، وأوحها في الآجلة، إن أقمت على المحايدة والعنود، ووقفت على المشاقة والجحود».
ولعل الخوارزمي أصدق نفسًا في شاعرية النثر من ابن العميد، على أنه دونه في فحولة اللفظ. وإليك منه هذه الفصول. وقد أخذتها من كتاب النثر الفني لطيب الذكر الدكتور زكي مبارك (١). وهذا الكتاب من أنفس ما كتب في عصرنا هذا فلا
(١) النثر الفني في القرن الرابع -للدكتور زكي مبارك- دار الكتب- ١٩٣٤ - ٢/ ٢٦٤.